أسفر اجتماع الساعات الأربع الذي استضافه، قصر الإليزيه بحضور الأطراف الأربعة الرئيسية في ليبيا: رئيس حكومة الوفاق الوطني، وقائد الجيش الوطني الليبي، ورئيس البرلمان الموجود في طبرق، ورئيس مجلس الدولة، و20 دولة ومنظمة إقليمية ودولية، عن إعلان سياسي، أهم ما جاء فيه اتفاق الليبيين على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في العاشر من ديسمبر/كانون الأول المقبل، والالتزام بالتوافق على قاعدة دستورية وقانونية للسير بهذه الانتخابات.
وجاءت المبادرة من باريس، وتحديدًا من الرئيس ماكرون، الذي اجتمع تباعًا مع فايز السراج والمشير خليفة حفتر، وعقيلة صالح، وأخيرًا مع خالد المشري قبل الجلسة العامة التي انتهت بـ"إعلان سياسي عن ليبيا" قُرئ باللغة العربية. إلا أنه لم يحمل توقيع الأطراف المعنية. وكشف ماكرون لاحقاً الأسباب التي حالت دون ذلك، ذاكراً منها اثنين: الأول رغبة الجهات الأربع في العودة إلى قواعدها قبل التوقيع على نص مكتوب، والثاني مرده إلى العلاقات الصعبة التي يقيمها الأربعة في ما بينهم.
وللخروج من هذا المأزق، ابتدع الدبلوماسيون حلا مجدداً، إذ طلب ماكرون من القادة الأربعة بعد قراءة الإعلان التعبير عن التزامهم به شفهياً، فلم يترددوا في الإجابة. وعلق الرئيس الفرنسي على ذلك قائلاً: "إذن نحن نعمل على هذه الأرضية المشتركة. أحسنتم". كما سأل ماكرون المشاركين الإقليميين والدوليين عما إذا كانوا يدعمون ما توصل إليه الليبيون، فجاءه الجواب بالإيجاب.
ولم يتردد ماكرون، في المؤتمر الصحافي بمشاركة السراج، والمبعوث الدولي الدكتور غسان سلامة، اللذين استعارا كلمته، في وصف الاجتماع بـ"التاريخي"، لأنها المرة الأولى التي يجتمع فيها المسؤولون الأربعة من جهة، وأيضاً بسبب الحضور الإقليمي والدولي الذي شمل تمثيلاً للدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، والاتحادين الأوروبي والأفريقي، والجامعة العربية، والبلدان العربية والأفريقية المجاورة لليبيا، ودولاً رئيسية في الشرق الأوسط والخليج. وشدد الرئيس الفرنسي على التزام الجميع بالعمل من أجل إخراج ليبيا من وضعها الراهن.
ونص الإعلان على 8 التزامات هي أنه بالإضافة إلى تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية نزيهة وذات صدقية، في العاشر من ديسمبر/كانون الأول المقبل، يجب العمل على بلورة قاعدة دستورية، وقانون انتخابي تحصل بموجبه، إضافة إلى الهدف الرئيسي، وهو التوصل إلى تبني دستور جديد باعتباره محطة أساسية لاستعادة ليبيا سيادتها.
وفي سياق الانتخابات التي شكلت محور الاجتماع، التزم الليبيون بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول المقبل موعدًا نهائيًا لبلورة القاعدة الدستورية المشار إليها، والتوافق على قانون انتخابي جديد مع ملاحظة دور رئيسي للمبعوث الدولي في تحضيره، بالتعاون مع كل المؤسسات الليبية للوصول إلى الهدف الرئيسي المتمثل في إعادة الاستقرار إلى ليبيا وتوحيدها. وتشكل هذه النقطة بالذات مسألة خلافية بين من يدعو إلى إقرار الدستور أولاً، بحيث يكون الأساس لبلورة قانون انتخابي، وبين من يرى أن أمراً كهذا سيكون بالغ الصعوبة في الفترة الزمنية القصيرة المتبقية 6 أشهر، وبين من يقترح استخلاص الفقرات الخاصة بالانتخابات من المسودة الدستورية، والعمل عليها للوصول إلى قانون انتخابي.
فضلا عن ذلك، شدد الإعلان على الالتزام بنتائج الانتخابات حتى لا تتكرر تجربة الماضي الانتخابية لعام 2014، ونص الالتزام الثالث بوضوح على ذلك محذِّرًا مَن يخرب أو يعيق المسار الانتخابي بـ"المحاسبة". واتفق الليبيون على العمل لتوفير "الشروط المطلوبة" التقنية والسياسية والتشريعية والأمنية للعملية الانتخابية، التي سيعهد بالإشراف عليها إلى القوى الأمنية الليبية الرسمية، بتعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية، بحيث تمكن جميع الليبيين من ممارسة حقهم، والتعبير سلمياً وديمقراطياً عن رأيهم في مستقبل ليبيا. وحذّر الإعلان من أي عرقلة أو تدخل في المسار الانتخابي، وهدد بملاحقة المخالفين.
وإزاء التساؤلات الرائجة عن واقعية إجراء انتخابات في ظل انقسام المؤسسات الليبية وتنافسها، وتدهور الوضع الأمني، أعرب الليبيون عن عن التزامهم بـ«تحسينه بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك نقل مقر البرلمان من طبرق إلى طرابلس، ووضع حد لازدواجية المؤسسات والبنى الحكومية عندما يحين الوقت لذلك، ودعوة البرلمان ومجلس الدولة إلى إعادة توحيد البنك المركزي ومؤسسات أخرى لم يسمّها فورا.
وتناول الإعلان وضع المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية، ودعا إلى دعم الجهود التي تقوم بها الأمم المتحدة، والحوار القائم في القاهرة من أجل الوصول إلى مؤسسات عسكرية وأمنية مهنية، مسؤولة وموحدة. وأخيراً، اتفق المجتمعون على المشاركة في مؤتمر سياسي لاحق، سيكون مفتوحاً أمام الجميع لمتابعة تنفيذ مضمون الإعلان تحت إشراف الأمم المتحدة. وخلص الإعلان إلى أن الأسرة الدولية مجمعة على دعم جميع الليبيين في ما اتفقوا عليه، بما في ذلك سعيهم لإدخال إصلاحات اقتصادية جوهرية وملائمة من أجل مستقبل زاهر.
وإذا كان المشاركون في اجتماع، أمس، قد ركزوا على الإيجابيات التي تحققت، فإن النتائج التي توصلوا إليها، والتي وُضعت تحت مسمى التزامات، ينقصها توافر الشروط لوضعها موضع التنفيذ. وقال الرئيس ماكرون في رده على سؤال حول الضمانات التي حصل عليها من أجل التزام الأطراف الإقليمية والدولية، التي كان لها دائماً دور في تأجيج النزاعات في ليبيا، إن كل الأطراف الحاضرة التزمت بدعم (الإعلان)، وبالمساعدة على تنفيذ التعهدات الواردة فيه، معتبرة أنه إنجاز لم يسبق أن تحقق في الماضي، حيث كانت التناحرات والخلافات تحول دون تحقيق تقدم. وحسب الرئيس الفرنسي، فإن التوافق بين الأطراف الليبية والدعم الدولي، الذي يرافقه، يشكل الضمانة للعمل بمضمون الإعلان.
وأضاف أن اجتماع باريس وفّر روزنامة عمل وطريقة للتقدم، فضلاً عن التزامات محددة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. أما بشأن الغموض الذي ما زال يحيط بالأسس التي ستُجرى على أساسها الانتخابات، فقد أمل ماكرون بـإزالته خلال الأسابيع المقبلة، انطلاقًا من أن الجميع متفقون على الحاجة إلى إجرائها، والحاجة إلى أن تكون الأكثر نزاهة وفاعلية.
وخلص الرئيس الفرنسي إلى أن ما تحقق، شكَّل خطوة تاريخية كبرى بحيث إن المسار الليبي خرج من الطريق المسدود، ومن شلل الجهود الذي كان يتغذى من الانقسامات الليبية والخارجية. وقال فايز السراج، إنه متمسك بأن تكون السلطة العسكرية خاضعة للسلطة المدنية، وهو ما كان مصدر خلاف بينه وبين المشير حفتر. وسُئل السراج عما إذا كان سيمنح العسكريين فرصة الترشح للانتخابات التشريعية والرئاسية، علماً بأن الأخير لا يُخفي طموحه في أن يخوض المعركة الرئاسية عندما يحين أجلها، فجاء رده مختصراً بالتمسك بالنموذج المعمول به في العالم، وهو أن تكون السلطة العسكرية خاضعة للسلطة المدنية، لأن وجود سلطتين متوازيتين سيلحق الضرر بإدارة شؤون الدولة. وأما بالنسبة إلى ترشح المشير حفتر أو العسكريين بشكل عام، فقد رهن السراج ذلك بما «سيحدده قانون الانتخابات والقانون الدستوري، الخاص بالانتخابات المقبلة.
وفي سياق موازٍ، دعا السراج المجتمع الدولي إلى بذل جهود هائلة للمساعدة في حل أزمة الهجرة، التي تعبر ليبيا إلى أوروبا، مشيرًا إلى أن بلاده بحاجة إلى جهود هائلة على المستويين الأوروبي والدولي للتعاطي مع مئات الآلاف من المهاجرين الأفارقة المحتشدين على الأراضي الليبية. كما حث السراج على وقف القتال في ليبيا، وتحسين البيئة الأمنية وأوضاع السكان المدنيين.
يبقى أن المبعوث الدولي غسان سلامة رد بتأكيد أن الرغبة في حصول انتخابات رئاسية وتشريعية قوية للغاية داخل الشعب الليبي، والدليل على ذلك تكاثر نسبة الذين يسجلون أسماءهم على اللوائح الانتخابية. كما شرح سلامة بالتفصيل الخبرات المتاحة من أجل بلورة القاعدة الدستورية والقانونية لإجراء الانتخابات، منبهاً إلى أن العمل الذي ينتظره وينتظر الليبيين كبير للغاية.
أرسل تعليقك