باريس ـ مارينا منصف
بعد مرور أقل من ثلاثة أسابيع على انطلاقة العهد الجديد مع انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية، بدأت الغيوم تتجمع فوق قصر الإليزيه، وتخفف إلى حد ما من انطلاقته الدبلوماسية الناجحة، كما برزت في قمتين أساسيتين مع الرئيسين الأميركي دونالد ترمب في بروكسل، والروسي فلاديمير بوتين في فرساي، فضلاً عن مشاركته في قمة الحلف الأطلسي في العاصمة البلجيكية وقمة الدول السبع في صقلية الإيطالية. وخلال الأيام القليلة التي انقضت على تسلمه للسلطة، حصد ماكرون ثناء سياسياً وإعلامياً بسبب قدرته على تلبس رداء الرئاسة، وبسبب أدائه في الداخل والخارج. وجاءت استطلاعات الرأي لتبين أن الحزب الذي يدعمه "الجمهورية إلى الأمام" يحتل المرتبة الأولى في توقعات نتائج الانتخابات التشريعية التي ستجري على مرحلتين يومي 11 و18 يونيو/حزيران الحالي، لا بل إنه سيكون قادرا على الفوز بالأكثرية النيابية التي ستمكنه من تنفيذ برنامجه ووعوده الانتخابية.
بيد أن هذه الصورة المثالية لم تدم طويلا. ومرة أخرى، كانت صحيفة "لو كنار أنشينيه" الأسبوعية الساخرة الجهة التي فجرت قنبلة سياسية لا أحد يعرف بعد كيف ستنتهي أو كيف ستكون آثارها على عهد ماكرون الذي جاء إلى السلطة وهو عازم على ضخ دماء جديدة شابة إلى الطاقم السياسي المهلهل، وخصوصا ممارسة مختلفة لها تكون بعيدة كل البعد عن الفساد والمحسوبية. والأسوأ من ذلك أن "الفضيحة" الجديدة جاءت تضرب أقرب المقربين للرئيس الجديد وذلك بشخص ريشار فران، وزير التخطيط المحلي الحالي. وأهم من صفته الوزارية أن ريشار فران يعد أحد أقرب المقربين من ماكرون. فقد تقرب منه في عام 2014، وكان أول نائب اشتراكي يلتحق به عندما أعلن إطلاق حركته السياسية "إلى الأمام" ربيع العام الماضي. ماكرون وفران هما عرابا العملية السياسية الاستثنائية التي قادت في زمن قياسي الوزير السابق ابن الـ39 عاماً الذي استقال من الحكومة وأعلن ترشيحه من غير أن تكون وراءه ماكينة سياسية حقيقية تدعمه إلى القصر الرئاسي. كذلك، فإن الخط السياسي الذي انتهجاه "لا يمين ولا يسار بل تخطى الانقسامات التقليدية في المجتمع الفرنسي" نتج عنه "تفجير" الحزبين الكبيرين اللذين كانا يتناوبان على السلطة في فرنسا منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، وهما اليمين التقليدي ممثلا حاليا بحزب "الجمهوريون"، واليسار المعتدل ممثلا بالحزب الاشتراكي.
ما الخطيئة الفضيحة التي ارتكبها ريشار فران والتي اجتذبت كل الوسائل الإعلامية والسياسيين والمعلقين وأثارت أكثر من تساؤل حول مستقبله السياسي وخصوصا تأثير ذلك على مسار العهد الجديد؟
يوم الأربعاء ما قبل الماضي، كشفت "لو كنار أنشينيه" أن فران استخدم في عام 2011 أي قبل أن يصبح نائباً، وكان عندها مديراً لمجموعة من شركات التأمين غرب فرنسا نفوذه لإتمام صفقة عقارية استفادت منها رفيقة حياته. وبينت تحقيقات صحافية لاحقة كيف أن فران أسهم في إثراء رفيقة حياته من خلال تأجير عقار مبني لمجموعة التأمينات التي كان يديرها وزير التخطيط المحلي. عمدت لاحقا إلى شرائه بفضل قرض من مصرف محلي حصلت عليه بعد توقيع العقد. ولا تنتهي متاعب فران عند هذا الحد إذ إنه عمد إلى توظيف ابنه مساعدا برلمانيا له عقب وصوله إلى الندوة النيابية وتخليه عن إدارة مجموعة شركات التأمين لكنه نصب نفسه مستشاراً للمديرة الجديدة مع راتب.
ومن جانب آخر، استفادت زوجته السابقة من ثلاثة عقود مع مجموعة التأمين. استنادا إلى هذه المعلومات، قرر المدعي العام لمدينة بريست صباح أمس الخميس، وبعد تردد لمدة أسبوع فتح تحقيق أولي بحق ريشار فران بسبب شبهات استغلال النفوذ وسوء استخدام الصلاحيات. وتزامن ذلك مع عرض وزير العدل فرنسوا بايرو الخطوط العريضة لمشروع قانون لفرض مبادئ أخلاقية في ممارسة العمل السياسي، وهو المشروع الذي جعله ماركون في مقدمة ما يريد تنفيذه حال وصوله إلى الرئاسة. ومن جملة ما ينص عليه المشروع حرمان لنواب من توظيف أقاربهم مساعدين لهم.
كان من الطبيعي أن تستغل كل الأحزاب "قضية" فران. وذهبت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن إلى المطالبة باستقالته، وكذلك فعل جان لوك ميلونشون، المرشح الرئاسي السابق وزعيم اليسار المتشدد. وانضم الحزب الاشتراكي إلى المطالبة بالاستقالة فيما عمد حزب "الجمهوريون" إلى توجيه انتقادات لاذعة لحزب "الجمهورية إلى الأمام" وإلى وزير العدل والحكومة بسبب "ازدواجية المعايير" بين التعاطي مع فيون ومع فران. وحتى الآن، ما زال الأخير يصر على أنه لم يرتكب أي جرم أو أية مخالفة قانونية رافضاً الاستقالة. وقال الناطق باسم الحكومة إن الوزير فران لن يستقيل إلا إذا تم توجيه اتهامات رسمية له عندها سيكون ملزما بالاستقالة.
حقيقة الأمر أن هذه القصة تحرج ماكرون وتضعه في موقع صعب. فهو من جهة، إذا أبقى الوزير إلى جانبه، فإن الانتقادات ستطاله وستلوث عهده وسيعمد خصومه إلى استغلال الفضيحة لإضعافه من جهة ولمنعه من الحصول على الأكثرية النيابية التي يحتاج إليها في البرلمان الجديد. وليس فران وحده في مرمى النيران بل هناك وزيرة الشؤون الأوروبية مارييل دو سارننيز المتهمة، كنائبة في البرلمان الأوروبي، بتوظيف "وهمي" لمساعد لها كنائبة بينما هو يعمل لصالح حزب "الديمقراطيون" الوسطي الذي تنتمي إليه والذي يرأسه الوزير بايرو.
ومن جهة أخرى، إذا تخلى ماكرون عن وزيره، فإنه يكون كمن قص ذراعه بسبب الدور الكبير الذي لعبه لإيصاله إلى الرئاسة ولأن تصرفا كهذا سيضعفه سياسيا. والخلاصة أن ماكرون واقع بين المطرقة والسندان. وحتى الآن، أرسل إشارات تفسر على أنها دعم لفران، والتقاه، وفق الصحافة الفرنسية، ثلاث مرات هذا الأسبوع. ولكن، مهما يكن قرار النيابة العامة، فإن الأيام الأخيرة شوهت إلى حد ما صورة الانتصار الجميل لماكرون، خصوصاً أداءه المميز كرئيس على المسرح العالمي.
أرسل تعليقك