زوج من النظارات الصدئة، ساعة عتيقة، بطاقات هوية القديمة، كل هذه العناصر البسيطة المعروضة في متحف في شمال العراق، والتي وجدت في مقبرة جماعية لرجال القبائل الكردية التي ذبحهم أتباع صدام حسين، تساعد في تفسير لماذا لا يوجد شك في الكيفية التي سيصوت بها الأكراد في استفتاء هذا الشهر على الاستقلال عن العراق.
قال "خلات برزاني" المسؤول عن المتحف الذي يخلد اغتيال الآلاف من الأكراد عام 1983 "كيف يمكن أن يتوقع المجتمع الدولي أن نكون جزء من العراق بعد هذه الجرائم؟"، حتى لو كانت النتيجة متخلفة - كل كردي تقريبا يحلم بحلم الدولة - التصويت في كردستان العراق يمثل لحظة تاريخية في كفاح الأجيال منذ فترة طويلة من أجل الاستقلال السياسي، ويشار إلى أن عدد الأكراد الذين يبلغ عددهم نحو 30 مليون شخص موزعين على أربع دول هي العراق وسوريا وتركيا وإيران، وغالبا ما يوصفون بأنه أكبر مجموعة عرقية في العالم بدون وطنهم، وقد تكون كردستان العراقية، المنطقة الغنية بالنفط في شمال العراق، أفضل أمل لها الآن".
ومن شأن الموافقة على الاستفتاء أن تبدأ عملية تحويل المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي إلى دولة مستقلة، ولكن خارج كردستان، يعارض كل لاعب كبير في الحي التصويت الذي يمكن أن يدمر العراق ويزيد من زعزعة استقرار المنطقة المتقلبة التي مزقتها الحرب، وقد أشارت بغداد إلى أنها لن تعترف بالنتائج، أما عبر الحدود في تركيا، فيشعر المسؤولون بالقلق من أن الأكراد الذين أعلنوا استقلالهم في العراق من شأنه أن يشعل المشاعر الانفصالية للأكراد في تركيا، وقد عارضت تركيا الاستفتاء وحذرت من أنها قد تؤدى إلى حرب أهلية جديدة في العراق، وقد حث المسؤولون الأميركيون، الذين يشعرون بالقلق من أنه سوف يعوق القتال ضد "داعش"، الأكراد على تأخير التصويت، إلا أن الاستفتاء من شأنه أن ينهي الصدع المفتوح بين بغداد وكردستان كما يمكن أن ينهي التعاون بين القوات العراقية والكردية، والذي يعتبر أمرا حاسما في حملة هزيمة تنظيم داعش، كما أن الانفصال الكردي سيحرم الولايات المتحدة من أحد أهدافها الأساسية منذ غزوها لهذا البلد: ألا يبقى العراق سليما.
من جانبها، أكدت إيران، القوة الأجنبية البارزة في العراق، وعلاقاتها الوثيقة مع الحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد والميليشيات الشيعية العراقية الخاضعة لسيطرتها، على أن أولويتها هي الحفاظ على وحدة العراق، ودون دعم البلدان المجاورة، يمكن أن يؤدي التصويت إلى نتائج عكسية، ويفشل في تحقيق الاستقلال ويصبح فصلا آخر في تاريخ طويل من الفرص الضائعة للشعب الذي عانى طويلا، كما يمكن أن يؤدى إلى العنف في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وهى مدينة متعددة الأعراق تخضع للسيطرة الكردية وطالما اعترض عليها بين الحكومة المركزية والسلطات الكردية.
وقال مبعوث الرئيس ترامب إلى التحالف الدولي الذي يقاتل تنظيم داعش، بريت ماكغورك، في الشهر الماضي "إن إجراء استفتاء على هذا الجدول الزمني السريع، لاسيما في المناطق المتنازع عليها، سيكون، على ما يبدو، زعزعة للاستقرار"، ولكن حكومة إقليم كردستان تقول أن التصويت سوف يمضي قدما كما هو مقرر في 25 سبتمبر/أيول، وسيكون ملزما، وافترض المسؤولون الكرديون انه على افتراض انه يمر، سيبدأ عملية انفصال رسمية، بما في ذلك المفاوضات مع الحكومة العراقية ودفع دبلوماسي لكسب تأييد القوى الإقليمية".
وأكد مسرور برزاني مستشار مجلس الأمن في إقليم كردستان ونجل رئيس المنطقة مسعود بارزاني الذي يقود حملة السيادة "إذا نظرتم إلى تاريخنا فقد تعرضنا لسوء المعاملة على مر التاريخ"، وأضاف "إننا كدولة تتمتع بكل حق في تقرير المصير"، متابعًا "نعتقد أن الوقت مناسب" للحصول على الاستقلال، ويعتقد الكثيرون أن الأمر يتعلق فقط بالوقت قبل أن يكون للأكراد دولتهم الخاصة، فيما أوضح بيتر دبليو، غالبريث الدبلوماسي الأميركي السابق الذي له علاقات وثيقة مع القيادة الكردية "أن المقصد النهائي واضح - هو الاستقلال"، وأضاف "من خلال الإعلان عن موعد الاستفتاء، لا يمكن سحبه"، وبصفته عضوا في مجلس الشيوخ في أواخر الثمانينات، سافر السيد غالبريث إلى كردستان العراق لتوثيق الفظائع التي عانى منها الأكراد على يد صدام حسين، الدكتاتور العراقي، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية وتدمير القرى، وساعد تقريره في زيادة الوعي الدولي بمحنة الأكراد، كما لعب دورا في قرار الولايات المتحدة بإنشاء منطقة حظر جوي في شمال العراق عام 1991، وقد أعطت هذه الحماية غرفة تنفس الأكراد لبناء منطقة مستقلة وعظام دولة مستقلة، وشبه غالبريث الاستفتاء على قرار بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي، وهو تصويت أعقبه التفاوض، وقال "في النهاية، أنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي"، ونظرا لانزعاج المنطقة من الاضطرابات، استفاد الأكراد باطراد من الفوضى لتحقيق مكاسب، في شمال شرق سورية، قاتلوا داعش، بدعم من الولايات المتحدة، وحصلوا على منطقة ذاتية الحكم، في تركيا، فاز الأكراد بسلطة سياسية جديدة في الانتخابات الوطنية ودفعوا لمزيد من الحقوق.
وفي العراق، سمحت هجمة تنظيم داعش للأكراد بأن يطالبوا بأراضي جديدة، بما فيها كركوك، التي تركها الجنود العراقيون الفارين، ولكن مع كل الفوز قد تأتي نكسات، في سوريا، نقلت تركيا قوات إلى الشمال لدفع التطورات الكردية، فيما يُذكر أن تركيا، بعد إجراء محادثات سلام، أثارت حربا طويلة مع الأكراد، وسجنت القادة الأكراد، وفي العراق، عوضت المكاسب الإقليمية أزمة اقتصادية عميقة بعد انهيار سعر النفط وتوقفت بغداد عن دفع مدفوعات الميزانية، وقد أثارت الأزمة الاقتصادية عدم الارتياح حتى بين العديد من الأكراد الذين يؤيدون الحملة الأوسع نطاقا من أجل الاستقلال ولكنهم يعتقدون الآن أن الوقت ليس مناسبا، ولم يحصل آلاف الموظفين المدنيين الأكراد، بمن فيهم المدرسون، على رواتبهم كاملة منذ سنوات، والحكومة الإقليمية التي لم تتمكن من تصدير ما يكفي من النفط لتحقيق الاكتفاء الذاتي المالي، تقترب من 20 مليار دولار من الديون، هناك الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية في كردستان التي يجب علينا حلها ".
ويشعر المحلل الكردي الذي عارض الاستفتاء، كمال شوماني، بالقلق من أن إعلان الاستقلال الآن يمكن أن يفشل، تماما مثل تجربة الدولة الكردية الوحيدة في التاريخ، جمهورية مهاباد، من الأراضي الإيرانية في عام 1946 بدعم من الاتحاد السوفيتي، لكن السوفيت تركوا بسرعة الأكراد، وانهارت الجمهورية، متابعًا "أن الأكراد لا يريدون رؤية كردستان قصيرة الأجل"، وثمة عقبة أخرى أمام الاستقلال هي مدينة كركوك الغنية بالنفط، وقالت بغداد أنها لن تتخلى أبدا عن مطالبتها بالمدينة وان الميليشيات الشيعية العراقية التي لها علاقات مع إيران أشارت إلى أنها ستكافح من اجل الحفاظ على العراق سليمة مما يزيد من احتمال حدوث معركة عسكرية، كانت كركوك، التي يسكنها الأكراد والعرب والتركمان، منذ فترة طويلة مركز الخلاف بين بغداد وكردستان، وكان الاستفتاء على مصير المدينة، الذي كان مقررا أصلا في عام 2007، وعنصرا رئيسيا من الدستور العراقي الذي ساعد الأميركيون على الكتابة، لم يعقد أبدا، ولكن في عام 2014، عندما هاجم مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية المدينة، وقام الجنود العراقيون بإسقاط أسلحتهم وفروا، أخذ الأكراد المدينة التي يعتبرونها وطنا روحيا، ويمكن لثرواتها النفطية الهائلة أن تحافظ على دولة مستقلة، ويرفض محافظ كركوك، نجم الدين كريم، الحجة القائلة بأن الأكراد يواجهون مشاكل كثيرة - أزمة اقتصادية، وانقسامات سياسية، وعدم استقرار وضع كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها - السعي إلى الاستقلال الآن.
ويؤكد محللون أن بغداد مفتوحة للتحدث عن الاستقلال مع الأكراد طالما ان دولتهم لا تشمل كركوك، وقال جوست هيلترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة حل النزاعات: "الناس في بغداد مستعدون للتفاوض بشأن الاستقلال"، لكن ليس مع كركوك، هذا خط أحمر لكل فرد في بغداد "، وأضاف أنه لن يفاجأ إذا تأخر الاستفتاء لهذا السبب، كما أن التنازل عن كركوك إلى الأكراد هو أيضا حرج لعرب المدينة وتركمانها، في شوارع كركوك، حيث يختلط الأكراد والعرب والتركمان في المقاهي وعلى زوايا الشوارع، والحديث عن الاستفتاء فيما بينهم محرم.
وبعد ظهر اليوم، كان أسام حسين، سائق سيارة أجرة تركمانى، يجلس في الشوارع مع أصدقائه الأكراد، ولكن عندما سُئل عن الاستفتاء، أصر على ان يتحدث في السر وقال "لا أستطيع التحدث أمام الأكراد"، وقال السيد حسين، الذي مثل معظم التركمان لا يريد أن يعيش في دولة كردية، وأضاف "أنهم إخوتي، لكنهم سيكونون مستاءين، ولكي نكون صادقين، لا يمكننا الحديث عن السياسة "، وفي مقهى قريب، كان كرمان محمد، وهو كردي يعمل لحساب وكالة الاستخبارات المحلية، يبعث على الارتياح إزاء الاستفتاء، خطف السيد محمد نحو أخيه الذي كان جالسا بجانبه وقال: "أمضى معظم حياته في سجن أبو غريب، وهذا ما يحدث عندما يحكم العرب ، أما بالنسبة للاستفتاء، قال: "يمكنك أن تتخيل شعوري، أنا حر، لدي السلطة".
أرسل تعليقك