الخرطوم ـ محمد ابراهيم
ما تزال أعاصير الحداثة تعصف بالمجتمع السوداني التقليدي، فمنذ أن صارت تكنولوجيا الاتصال الحديث وعلى رأس قائمتها “الهاتف الجوال” جزءًا لا يتجزأ من مقتنيات السودانيين، تراجعت الكثير من العادات والثقافات السودانية إلى الوراء، وامتدت حملة “التغيير السلوكي” إلى نواح جديدة، وظهرت بشكل هام في العلاقات الاجتماعية، حتى كادت أن تجعل تواصل الأجيال صراعا وجدلا لا ينتهي.
“الزين” السوداني البالغ من العمر سبعين عاما، قابلته ذات يوم في محطة المواصلات الرئيسية جنوب الخرطوم في ضاحية “جبرة” الشعبية، وكعادته صباح كل يوم كان “الزين” ومثله كثير من السودانيين في إنتظار “ميني باص” يقلهم إلى أشغالهم المتفرقة وسط العاصمة، وفيما نحن جميعا في الانتظار تجاذبت أطراف الحديث معه في مقاربات بين جيل من السودانيين كاد أن ينقرض وجيل جديد يناقض جيله شكلا ومضمونا.
وتحدّث الزين عن الطقوس والاجواء التي كان يعيشها جيله في ذات المحطة سابقا، وقال إنها أجواء خاصة كانت تسود رحلة مركبات المواصلات من هذه المحطة إلى وسط الخرطوم في رحلة قد تستغرق نحو ساعة إلا ربع يقضيها الركاب في “دردشات” و”قفشات” و”تعارف”، حيث كانت محطة المواصلات نقطة إلتقاء لجميع أهل الحي القريب والاحياء المجاورة التي تمتمد رقعتها إلى عشرات الكيلومترات.
وروى “الزين” قصصا عن علاقات غرامية عفيفة، تشكلت في رحلة المواصلات كانت بدايتها هذه المحطة،وتوطدت العلاقات وامتدت إلى ان وصلت لحد الزواج والمصاهرة، أما الآن فقد تغير الوضع تماما خاصة مع تطور وسائل الاتصالات، فالأجواء صارت مثل الطقوس الغربية على حد قوله، متهما بشكل مباشر “الهاتف الجوال” وخصوصا أحد أهم تطبيقاته وهو “الواتساب” بأنه المتسبب الاول في إنهيار العلاقات الإجتماعية بصورة عامة، وضياع فرص التواصل على المركبات العامة بشكل أخص.
ويحكي “الزين” أنه قد لاحظ في الاونة الاخيرة أن غالبية الركاب من الجيل الحديث منهمكين مع هواتفهم النقالة،متباكيا علي الزمن الذي كانت المركبات تضج بالنشاط والحيوية، وزاد الزين: "كنا في كل يوم نتعرف علي شخص جديد داخل مركبتنا".
واستطلع ”العرب اليوم” آراء عدد من الشباب الذين حضروا في ذات المحطة ، حيث عجب الدور كباشي شاب في العشرينات قائلًا إن لكل زمان مميزات قد تختلف عن ميزات الاجيال السابقة واضاف ان هناك فجوة كبيرة حدثت بين الاجيال مشيرًا الى ان العادات والتقاليد السودانية ستظل هي الموحد الحقيقي لكل السودانيين , وجلهم يشترك فيها لدرجة انك لاتستطع التفريق بين غني وفقير، فيما قالت الطالبة في جامعة الخرطوم ريماز عوض الكريم ان الامر طبيعي جداً خاصة وأن العصر الحالي لمواكبة الحداثة، أما أم هاني التي تعمل موظفة باحدي شركات القطاع الخاص تحدثت قائلة إن الجيل الحديث مختلف تماما من الاجيال السابقة من حيث الفهم والتفكير ولذلك من الصعب جدا الحفاظ على العادات.
وصار هذا التباين الواضح بين رواية الزين الرجل الذي يمثل جيلا وزمنا قديما وشباب بات “الهاتف الجوال” وسيلة تواصلهم، نموذجا ساطعا لجدل الحداثة والتقليد في سودان اليوم، وتؤكّد الاستشارية النفسية د.مني عابدين عبدالرحمن، ان انتشار هذه الوسائل تسبب في ما يمكن أن نعتبره “إنشقاق” اجتماعي وحدوث فجوة داخل الأسرة السودانية التقليدية حيث اتسعت مساحة الفوارق بين الآباء والأبناء، مشيرة الى ان انتشار وسائط التواصل يؤدي إلى توقف لغة الحوار والتفاهم بين الآباء والأبناء مما قد يؤدي بشكل كبير الي انعزال الابناء عن الجو الاسري الذي يسوده لغة التفاهم والمرح والدفء وذلك لانشغال الكل بهواتفهم المحموله وانجذابهم الي عالم “الواتس اب “وغيرها من التطبيقات.
الفيسبوك.
وأضافت عابدين: في عصرنا الحالي اضحى غالبية السودانيون يستمدون قيمهم الاجتماعية وخبراتهم التواصلية من هذه التطبيقات التقنية قد تصل في حالات سلوكية الى حد الادمان،كما لها عظيم الاثر الاجتماعي علي من هم حولنا ويتمثل ذلك في التقليل من العلاقات والنشاطات الاجتماعيه كما في السابق مثل المشاركه في ممارسة رياضات معينه او الاشتراك في النوادي داخل الاحياء الصغيرة، ووضع خطط وبرامج لحماية المنطقه وحفظها وتطويرها وتمثل ايضا في الحد من المشاركة في مناسبات الحي او المنطقه او مناسبات الاصدقاء والاهل حتي الذهاب الي المسجد للصلوات اصبح عبئا ثقيلا عليهم وذلك لتفضيل الشاب او الشابه الجلوس في عزلة مع برامجه وتطبيقاته الاجتماعية.
وتعكس آخر احصائية للهيئة القومية للأتصالات في السودان، حقيقة تأثير الوسائط الحديثة على المجتمع السوداني، حيث بينت أن مستخدمي شبكات الانترت على الهاتف الجوال “الموبايل” أكثر من 9 مليون أي نحو ثلث سكان السودان، 82% منهم يعيشون في الحضر و69.8%في الريف و 76.3% من النساء و70.1% من الرجال. وبحسب الدراسة المسحية فأن نسبة الأسر التي يمتلك أحد أفرادها جوالا في المدن تبلغ 95.4% وفي الريف 88.5%.
أرسل تعليقك