يدخل لبنان في مرحلة الاختبار الجدي أمام المجتمع الدولي للتأكد من مدى التزامه التأييد غير المسبوق الذي ناله من قبل مجموعة الدعم الدولية في اجتماعها في باريس، والتي أرادت من خلال البيان الصادر عنها، توجيه رسالة إلى كل من يعنيهم الأمر، بأن هذا البلد الذي يقع في منطقة مشتعلة بالنزاعات العسكرية والسياسية، غير متروك، وأنه يتمتع بحماية دولية مباشرة لضمان أمنه واستقراره ليكون في مقدوره التغلب على مشكلاته السياسية والاقتصادية.
ويقول مصدر وزاري واكب التحضيرات لعقد اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان، إن الرعاية الأممية له كانت وراء عودة رئيس الحكومة سعد الحريري عن استقالته، لأن وجوده على رأس حكومة «استعادة الثقة» يشــكل عامل اطمئنان للمجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه العمود الفقري لاستقرار البلد ومنع إعادته إلى المربع الأول الذي عانى منه لبنان، بسبب الشغور في رئاسة الجمهورية، الذي انعكس شللاً وتعطيلاً للمؤسسات الدستورية وللإدارات العامة.
ويؤكد المصدر الوزاري نفسه، بأن عودة الحريري عن استقالته أعادت لبنان إلى الخريطة الدولية وفتحت الباب أمامه للانصراف إلى تصحيح علاقاته بعدد من الدول العربية وعلى رأسها دول الخليج العربي، وبالتالي يجب الإفادة من الحاضنة الدولية له وعدم التفريط بها لأنها قد تشكل الفرصة الأخيرة له للانتقال إلى بر الأمان، شرط عدم انخراطه في أي محور من المحاور العربية.
وبكلام آخر رأى المصدر الوزاري ذاته أن المجتمع الدولي وفّر للبنان شيكاً سياسياً يبقى عليه أن يعرف كيف يصرفه في المكان الصحيح لئلا يتحول إلى شيك بلا رصيد. وقال إنه رسم له خريطة الطريق التي تمكنه من الحفاظ على استقراره، وأن ما تضمنته من بنود ستبقى موضع متابعة ومواكبة من قبل المجتمع الدولي وهذا ما يتطلب منه ترسيم الحدود لعلاقاته العربية والخارجية لئلا يقع في المحظور الذي تتلاشى معه كل مفاعيل الحاضنة الدولية للبنان.
ولفت المصدر إلى أن العلاقات بين الأطراف المحلية ستبقى تحت سقف ما ورد من بنود في البيان الاختتامي لمجموعة الدعم الدولية للبنان. وقال إن التعاطي مع ملف النازحين السوريين في لبنان لن يبقى خاضعاً للبازار السياسي أو للاجتهاد والتأويل من هذا الطرف أو ذاك، خصوصاً من جانب الأطراف التي تدعو إلى تطبيع العلاقة مع النظام في سورية بذريعة أنه المدخل الوحيد لإعادتهم إلى بلداتهم وقراهم.
وأكد أن تشديد بيان مجموعة الدعم على العودة الآمنة والكريمة للنازحين السوريين بعيداً من القسرية وبالتنسيق مع المجتمع الدولي وتحديداً الأمم المتحدة، يعني أنه أعاد هذا الملف إلى مساره الأممي وبالتالي وضع حداً للمحاولات المبذولة من الأطراف المحلية المنتمية إلى محور الممانعة ومعها «التيار الوطني الحر» من أجل القفز فوق دور الأمم المتحدة في رعاية عودتهم باعتبارها وحدها المعنية بتحديد المناطق الآمنة لعودتهم إلى بلداتهم في سورية.
وتوقّف المصدر الوزاري أمام إعادة التذكير بالقرار الدولي 1559 ومفاعيله المتعلقة بسحب السلاح من الميليشيات في لبنان وقال إن هذا يعني أن هذه المسألة الشائكة ما زالت مطروحة ولم تسحب من التداول على رغم أن بعض الأطراف أحجم منذ فترة عن طرحها.
كما توقف أمام تطرق بيان المجموعة الدولية لدعم لبنان إلى الإصلاحات وكأن من وقّع على هذا البيان أراد التذكير أيضاً بضرورة مكافحة الفساد وإصلاح الإدارات والمؤسسات العامة، وصولاً إلى اعتماد الشفافية ومبدأ المحاسبة.
واعتبر المصدر أن تضمين البيان إشارة واضحة إلى عزم الأطراف الموقّعة عليه التحضير لثلاثة مؤتمرات، الأول في روما لدعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية، والثاني في باريس لتوفير الدعم للاقتصاد اللبناني، والثالث في بروكسيل ويتعلق بمساعدة لبنان للتخفيف عن الأعباء الملقاة على عاتقه نتيجة استضافته النازحين السوريين، ما هو إلا تعبير عن «النيات الحسنة» للمجتمع الدولي حيال لبنان شرط أن يظهر تشدداً في التزامه ما ورد في البيان، خصوصاً بالنسبة إلى الحفاظ على استقراره والالتفات إلى مشكلاته الداخلية.
بيان الحريري والخزعلي
ودعا المصدر الوزاري نفسه إلى عدم المرور مرور الكرام على الموقف المتشدّد الذي صدر عن المكتب الإعلامي للحريري حيال الجولة التي قام بها زعيم «عصائب أهل الحق» في العراق قيس الخزعلي على عدد من البلدات الحدودية في جنوب لبنان. وقال إنه أراد من خلال إصراره على إجراء التحقيقات اللازمة التي تحول دون قيام أي جهة أو شخص بأية نشاطات ذات طابع عسكري على الأراضي اللبنانية، توجيه رسالة إلى الداخل مفادها أنه من غير المقبول السماح بخرق القرار1701 من خلال دخول شخص بلباس عسكري إلى منطقة العمليات في جنوب الليطاني التي تخضع لسيطرة الجيش اللبناني والقوات الدولية (يونيفيل) وأخرى إلى الخارج بأن لبنان يلتزم سياسة النأي بالنفس.
ورأى أن طلب الحريري فتح تحقيق حول هذا الخرق يعني أنه لم يعد مسموحاً إحداث فوضى، خصوصاً في منطقة جنوب الليطاني، وتوقّع مع عودة الحريري في الساعات المقبلة من باريس أن يبادر إلى التحرك في اتجاه عقد لقاءات أمنية وعسكرية يراد منها ضبط الوضع وتحديداً في المناطق المحيطة بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين لقطع الطريق على من يحاول استغلال التحركات ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس واستخدام لبنان كمنصة لإطلاق الرسائل منها.
ويبقى السؤال كيف سيتحرك الحريري بعد أن لقي حاضنة دولية من قبل المجموعة الدولية لدعم لبنان، وهل سيكون أمام مرحلة جديدة بعد عودته عن استقالته، تختلف عن مرحلة ما قبل الاستقالة؟
ومع أن الجواب عن هذا السؤال يبقى ملكاً للحريري فإن من واكب الظروف التي أحاطت بإعلان استقالة حكومته ومن ثم التريث في تقديمها بناء لرغبة رئيس الجمهورية ميشال عون، وصولاً إلى عودته عنها متسلحاً بموقف مجلس الوزراء المؤيد لسياسة النأي بالنفس، يعتقد بأن الحريري اليوم غيره ما قبل الاستقالة ما يعني أنه يطمح إلى اجتياز الاختبار أمام المجتمع الدولي من دون أن يسجل على نفسه أنه تراجع في مكان ما عن تطبيق ما ورد في بيان مجموعة الدعم اللبنانية.
وعليه فإن الحريري لم يعد لديه من «المؤونة» السياسية ما يدفعه إلى التهاون أو صرف النظر عن كل ما يعيق الالتزام بالنأي بالنفس عملاً لا قولاً، خصوصاً أن لبنان يدخل منذ الآن في مرحلة جديدة تخضع لمراجعة دولية للتأكد من قدرة مؤسساته الدستورية على توظيف المساندة من المجتمع الدولي في المكان الذي يؤدي إلى توفير الحلول ولو على دفعات لمشكلاته الاقتصادية والسياسية، لأن تفويت مثل هذه الفرصة الأممية قد لا تعوّض.
إلى جلسة مجلس الوزراء
لذلك هناك من يدعو إلى مراقبة الأجواء التي يفترض أن تسود أول جلسة لمجلس الوزراء قد تعقد قبل نهاية الأسبوع الحالي، للتأكد من مدى حرص المكونات المشاركة في الحكومة على توظيف الدعم الدولي في المكان الذي يضع لبنان على طريق النهوض بمشكلاته، وأيضاً من إمكانية التغلب على التوتر المسيطر على علاقة «التيار الوطني الحر» بحزب «القوات اللبنانية» والأخير بعلاقته بتيار «المستقبل» في ضوء الحديث عن لقاء مرتقب بين الحريري وسمير جعجع، يفترض أن يوظف في تنقية الأجواء بينهما تمهيداً لطيّ صفحة التوتر وتزويد علاقتهما الثنائية بجرعة من الإنعاش السياسي، تقود حكماً إلى معاودة التواصل بصرف النظر عن علاقة «القوات» بـ «التيار الوطني» الذي يخطط لصيغة جديدة «لإعلان النيات»، ظنّاً منه أن الظروف تتيح له الاستقواء على حليفه وصولاً إلى تصفية الحساب معه لأسباب لا تتعلق بالظروف التي أحاطت باستقالة الحريري قبل أن تطوى.
فهل ستبادر الأطراف الرئيسة في الحكومة إلى الإفادة من الدعم الدولي للبنان، أم أن بعضها يحاول أن يوظف هذا الدعم في مسلسل النزاعات الداخلية، ظناً منه أنه يكسب معركته بالنقاط استعداداً لخوض الانتخابات النيابية في الربيع المقبل في ظل الإصرار الدولي على إنجازها كأساس لإعادة تكوين السلطة في لبنان؟، على رغم أنه من السابق لأوانه الدخول في لعبة التحالفات الانتخابية طالما أن لا مصلحة لأحد في أن يكشف أوراقه قبل الأوان، وبالتالي يضع نفسه على لائحة المستهدفين من قبل الآخرين؟
أرسل تعليقك