تُحلّق مروحيتان صغيرتان فوق حظيرة الطائرات لبضع دقائق، بينما يُباشر الطيارون إجراءات المراجعة التي تسبق الرحلة الجوية، قبل أن تنطلقا شمالا وتتواريا عن الأنظار في طريقهما نحو منطقة القتال، وتعود المروحيتان وهما من طراز (إم دي 530 إس)، إلى الجبهة في إقليم أوروزغان بجنوب وسط أفغانستان للمشاركة في قتال حركة "طالبان"، رغم أن هذا الطراز أصبح يستخدم في بلدان أخرى لنقل السائحين، حسب ما جاء في تحقيق لوكالة الأنباء الألمانية عن جهود بناء سلاح الجو في أفغانستان.
وجاء في التحقيق أن المروحيتين أقلعتا من مطار قندهار بجنوب أفغانستان الذي أصبح الآن أكبر مركز تدريب للقوات الجوية الأفغانية الناشئة.
وتندرج هاتان المروحيتان في إطار الجهود المتنامية التي تقوم بها مهمة التدريب التي يقوم بها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وتعرف باسم "الدعم الحازم" لبناء قوات جوية أفغانية من لا شيء، في سباق عكس عقارب الساعة في ظل اتساع نشاط حركة التمرد في الوقت الذي تحتدم فيه الحرب كل يوم. ويتعيّن على الطيارين والفنيين تعلم المهمة في الوقت الذي يقاتلون فيه بالفعل، كما أشارت وكالة الأنباء الألمانية.
وجاءت هذه الخطوة متأخرة، حسب الوكالة، فعلى رغم إنفاق مليارات الدولارات على الجهود الدولية لإعادة إعمار أفغانستان منذ العام 2001، لم يتم الالتفات إلى بناء سلاح جوي يمكنه توفير الدعم للقوات البرية، وكانت الآمال تنصب آنذاك على أن قوات الجيش والشرطة التي يزيد قوامها على 300 ألف فرد كفيلة بإنهاء المهمة والقضاء على التمرد. لكن حركة "طالبان" ما زالت تكيل الضربات للجيش والشرطة، حيث تشن عشرات الهجمات على القواعد والمواقع الأمنية والبلدات بشكل أسبوعي، ما يؤدي إلى مقتل الآلاف من قوات الآمن كل عام، ويترك هذه القوات في حالة من الإجهاد والإحباط، على ما جاء في تحقيق "د.ب.أ".
وتبسط "طالبان" اليوم سيطرتها ونفوذها على مساحة لا تقل عن 14 في المائة من المناطق الأفغانية، بينما يستمر الصراع على مناطق أخرى تصل إلى قرابة ثلاثين في المائة من مساحة أفغانستان، وذلك حسب آخر تقرير لوكالة التفتيش العامة التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي الخاصة بإعادة إعمار أفغانستان (سيجار) في فبراير/ شباط الماضي. وقالت وكالة الأنباء الألمانية إن هناك مصادر أخرى ترى أن الأرقام أعلى من ذلك.
والآن، مع زيادة الحاجة إلى الأسطول الجوي الأفغاني الصغير الذي لا يزيد حجمه حاليا على 135 طائرة، يتعين على طياري سلاح الجو أن يكافحوا من أجل الوفاء بجميع المهام التي توكل إليهم. وتتلقى القوات الجوية عشرات المهام الجديدة كل يوم سواء إن كانت توجيه قصف جوي أو نقل قوات أو القيام بطلعات للإجلاء الطبي أو توصيل إمدادات.
ويقول أحد الطيارين أثناء وقوفه داخل حظيرة الطائرات في قاعدة قندهار: "أحياناً نقوم بثلاث طلعات جوية في اليوم الواحد". ويوضح الطيار الذي طلب تحديد هويته باسم "الكابتن إم": "خلال شهر رمضان العام الماضي، كنت أطير بينما كانت أصابعي شاحبة من الجفاف والإجهاد". وأضاف: "هذا وطني، ويتعين أن نعمل جاهدين من أجل إنقاذه".
ويؤكد مستشارون أن جهود تدريب الطيارين وصيانة الطيارات تؤخذ على محمل الجد، حيث من المقرر زيادة عدد الطائرات التابعة لسلاح الجو الناشئ بواقع ثلاثة أضعاف عددها الحالي بحلول عام 2022.
ويقول البريغادير جنرال فيليب ستيوارت قائد بعثة التدريب وتقديم الاستشارات والمعاونة على القيادة الجوية في أفغانستان إن عدد أفراد سلاح الجو سيزيد بنسبة أربعين في المائة تقريبا، كما جاء في تحقيق الوكالة الألمانية.
وتضم القوات الجوية الأفغانية حاليا زهاء 8 آلاف فرد بما في ذلك الطيارون والأطقم الجوية وأفراد الصيانة، ومن المقرر زيادة هذا العدد إلى حوالي 11 ألف فرد. ويقول ستيوارت: "في الغرب، تستغرق عملية تدريب الطيار أكثر من أربع سنوات، ولكن هنا، لا تزيد فترة برنامج التدريب عن عامين، فالطيارون يخوضون حرباً بالفعل". وأضاف أن "الطيارين ينفذون حوالي مائة طلعة جوية تقريباً في اليوم، وبنجاح كذلك".
ويقول المدربون إن القوات الجوية خاضت بالفعل معارك حاسمة في عام 2017، ويتمثل هدفها الرئيسي في الاشتباك خلال المواجهات البرية مع عناصر "طالبان" ومهاجمة مواقعها وتقويض قوتها. ويقول مستشارون آخرون إن القصف الجوي ساعد القوات البرية الأفغانية في الوصول إلى ما يطلق عليه اسم "التفكير الهجومي" والخروج من المواقع الأمنية والقواعد العسكرية التي كانوا يتحصن بها الجنود في السنوات الماضية، ونادراً ما كانوا يتجرأون على المغامرة بالخروج وشن هجمات على مواقع "طالبان".
غير أن من الأشياء التي تثير القلق، حسب الوكالة الألمانية، قدرة القوات الأفغانية على شن هجمات دون إسقاط ضحايا في صفوف المدنيين. فقد كشف آخر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة بشأن الضحايا المدنيين خلال الحرب أن القوات الجوية الأفغانية قتلت وأصابت أكثر من 300 مدني خلال عام 2017، بما يمثّل 49 في المائة من جميع الضحايا الذين سقطوا خلال الغارات الجوية، رغم أن الطيران الأميركي يشن عدداً أكبر بكثير من الغارات الجوية.
وما زالت القوات الجوية الأفغانية تفتقر إلى الوسائل الكافية للاتصال بالقواعد الأرضية ومراكز المراقبة الجوية التي تساعد في تحديد ما إذا كان هناك مدنيون بالقرب من المواقع المطلوب استهدافها بالقصف الجوي، وكذلك المساعدة في توجيه الضربات وفق إحداثيات واضحة.
ومن بين المشروعات الأخرى التي يهتم بها المستشارون والمقاولون العسكريون عمليات الإنزال الجوي وإجلاء الضحايا علاوة على صيانة الطائرات، وهي مهمة أصعب من تدريب الطيارين.
ويقول الميجور جيرار كاريسيو كبير المستشارين لشؤون صيانة الطائرات إن "تدريب ميكانيكي جيّد يستغرق من خمس إلى سبع سنوات". وفي الوقت الحالي، يتولى مقاولون أجانب حوالي ثمانين في المائة من كافة عمليات صيانة الطائرات في أفغانستان.
وأكد الجنرال ستيوارت أن "القتال هو مدرّب رائع"، مضيفا أن بعض المهمات يتم القيام بها بشكل جيد بالفعل، بما في ذلك تعبئة الأسلحة بالذخائر. ولكن ما زالت هناك مهام أخرى تمثّل تحدياً، مثل إجلاء الضحايا على سبيل المثال.
ويحاول جراح تابع لسلاح الجو الأميركي بالتعاون مع ثلاثة مستشارين آخرين فقط تحسين مستوى أطقم الإسعاف الجوي الموجودة حاليا والقليلة للغاية، حيث يفترض أن ينجحوا في مرحلة ما من التدريب في نقل المصابين من ساحة القتال إلى المراكز الطبية العسكرية خلال ستين دقيقة. وقال الجراح: "نجح فريق إسعاف مؤخراً في إجراء عملية نقل المصابين خلال تسعين دقيقة".
ومن بين العناصر المهمة في المشروع التدريب على مروحيات "بلاك هوك"، وهي على الأرجح أكثر مروحية متطورة والأعلى سعرا في الأسطول الأفغاني الذي يضم طائرات صغيرة رخيصة وسهلة الصيانة.
ووصلت ثماني مروحيات من هذا الطراز إلى قاعدة قندهار الجوية في أغسطس/ آب عام 2017، ومن المفترض أن تدخل الخدمة بدل مروحيات النقل الروسية العتيقة طراز (إم إي 17) التي تسمى "ديناصورات" الحروب الجوية الأفغانية.
وأعرب أحد الطيارين الشباب الذين يتدربون في قندهار عن شعوره بالحماسة، حيث إنه كان يحلم دائما أن يصبح طيارا، وهو لا يشعر بالقلق من خوض المواقف القتالية. يقول الطيار للوكالة الألمانية: "عندما يريد شخص ما أن يقتل أسرتي، لماذا يتعيّن أن أتردد قبل أن أقتله؟".
أرسل تعليقك