في وقت أعلنت فيه امانة بغداد أنها تدرس بشكل جاد إمكانية إعادة احياء الأبنية التراثية الآيلة للسقوط في مناطق بغداد القديمة عن طريق الاستثمار ،يعاني الكثير من الأزقة والحارات البغدادية القديمة والابنية التراثية من الإهمال الكبير، وهي حاليًا في وضع يرثى له كونها آيلة للسقوط، وقد هجرها أغلب سكانها وباتت مأوى للعصابات وأوكارا للرذيلة.
وتشمل خطة امانة بغداد العديد من البيوت والخانات والأسواق والمحال التجارية التراثية الواقعة في جانب الرصافة ضمن مقتربات شوارع الرشيد والجمهورية والكفاح، واكدت امانة بغداد في وقت سابق ان "خطة الأمانة هذه جاءت نتيجة قدم هذه البيوت" مضيفة ان الأمانة "تدعم أي جهة تقوم باستثمار هذه الأماكن وجعلها مطاعم تراثية او محلات لبيع التحف مع المحافظة وفق التصميم الأساسي والتراثي لهذه الأماكن".
ونقصد بالأبنية القديمة التي تشمل منها مثل شارع الكفاح وشارع الشيخ عمر والخلفاء والبتاويين والكاظمية والاعظمية والشواكة والكريمات وصولا الى شارع الرشيد بجماليته الرائعة المتمثلة بـ"الشناشيل" بل هي تمثل خلاصة الشناشيل البغدادية بتصاميمها المختلفة المطعمة بالزخرفة الاسلامية، وهذه البيوت التراثية او ماتسمى بـ" الشناشيل" حقيقة لا تقترب من الاخريات الموجودة في الشوارع الأخرى لان تنوع الطراز المبني على أساسه يعود الى العشرينيات من هذا القرن حيث كان يسمى بـ ( الركوكو ) والمبني بطريقة كلاسيكية رائعة الجمال والقياس حيث يظهر وبشكل جلي دقة الحرفي البغدادي آنذاك وحتى الاعمدة ( الآيونيك ) بتلوينات ساحرة واحيانًا تجد في بناء الشناشيل كيانا جماليا تشم فيها روائح الشعر وسحر الهندسة المعمارية .
ويبدو أن هناك خصوصية لكل عمل من الشناشيل يعتمد بالأساس على فهم الفنان البغدادي القديم من خلال فهمه لروح التراث والفولكلور لأنه يدرك جيدا طبيعة عمله وصولا الى العمل بالزخارف الإسلامية حيث منحت فضاءاته اسلوبية غاية بالغناء التراثي الإسلامي، إضافة الى ذلك تجد الطرز الزخرفية لواجهات الأبنية المستقيمة والمسطحة بشكلها العام هي طرز هجينة (عراقية ـ اوربية) من الزخرفة المحلية الى ما يسمى بـ(الركوكو) او (الارت نوفو) او (الارت ديكور) خلال الفترة المشار اليها أعلاه ونهاية الثلاثينيات ومن المؤكد بأن هذه الزخارف .
جاءت الى بغداد عن طريق التأثيرات الاوربية في هذه الفترة عبر بعض المهندسين العرب والأجانب وكذلك من خلال المجلات المعمارية التي كانت تصل الينا آنذاك. وتعد العاصمة بغداد من أهم المدن في العالم التي تحتوي على أماكن تراثية وحضارية لا تعد ولا تحصى، هذه الأماكن تعد كنوزاً لا تقدّر بثمن، من حيث الأهمية التاريخية والأثرية.
حيث تتوزع هذه الأماكن والبيوت التراثية على مساحات واسعة من مدينة بغداد القديمة وعلى جانبي الكرخ والرصافة، ويعود تأريخ إنشاء بعضها إلى بدايات العصر العباسي والبعض الأخر إلى العصر العثماني وكذلك إلى العصر الحديث. ويعد هذا الموروث الحضاري ذو الطابع المتميز والفريد منذ أولى الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والبابلية مروراً بعصر صدر الإسلام والعصرين العباسي والعثماني، اللذين كانا بداية الانتقال الى العصور الحديثة والتنوع العمراني الحالي، حيث مزايا الأبنية تنعكس على الواقع البغدادي.
زخرفة الخشب (الشناشيل) هواية البغداديين القديمة وهنا نود ان نشير الى ما كان يردده المهندس جميل (وهو أحد المختصين ببناء الشناشيل وفنه) ما كان يقوله جده الاسطة (عبد الهادي) وهو أول من علمه التعامل مع أصناف الخشب القادم إلى العراق من الهند، بأن الزخرفة على الخشب أو (الشناشيل) هي صنعة بغدادية الجذور .
يقول الحفيد إن الأجهزة المستخدمة فـي صناعة الشناشيل هي ذاتها التي تستخدم في صناعة الخشب، وهي المنشار والمطرقة وأدوات الحفر التقليدية التي تشبه أزميل النحاتين إضافة إلى المسامير ومـواد التثبيت اللاصـقة الخاصة بالخشب (الغراء) كما يسميها أهل بغداد.
وأهم ما يميز هذه الصناعة هو الذوق وعشق الصناعة واختيار دقة الأبعاد بشكل متناه، ومعرفة اتجاهات الريح الداخلة والخارجة إلى الدار (ليس هناك شبابيك مستقلة أو أبواب مستقلة، هناك فقط امتدادات متكاملة من الخشب تعتمد صناعتها على مهارة الأسطوات فيخرج منه الباب والشباك والشرفة تاركا فسيفسائه تبهر أنظار المارة ) .
البيوت التراثية في بغداد في منطقة القشلة تقف ساعتها الشهيرة شامخة ويقف بالقرب منها احد البيوت الأثرية التي تعد عمارته الفخمة دليلاً على قدرة البناء العراقي الجمالية ،
ومازال هذا البيت التراثي يتحدى الزمن، وما نخشاه اليوم هو الإهمال في زمن الإعمار والحرية.
أما في محلة الشواكة، فما زالت هناك بعض البيوت الأثرية صامدة ومعاندة من أجل البقاء، وإن تحولت بعض هذه البيوت الى مقرات لبعض الدوائر الحكومية، وأماكن أخرى ومحلات وأزقة مازالت تعاني من الإهمال وطفح المجاري والتآكل، وهذا ما لاحظناه في جولتنا في محلة العاقولة في العاصمة.
وكذلك الحال في شارع حيفا.. يوجد فيه بيوت تراثية مازالت عامرة، لكنها بحاجة الى إدامته وتجديده من دون المساس بجوهره المعماري. خصائص الشناشيل ومن خصائص البيوت البغدادية الاصيلة خارجيا هي تقليعة الطابق الأول، حيث تبرز ارضيته وجداره الخارجي على الازقة مؤلفة ما يسمى محليا بالشناشيل التي تحتوي على المشبكات الخشبية.
الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية تعادل (المشربيات) في البيوت القاهرية وتعادل أيضا ( الرواشين ) في بيوت جدة التراثية.
وبحسب مفهوم المحلة فإن البيوت التراثية تشكل كتلا بنائية متلاحمة، حيث انها تبنى متلاصقة جنبا الى جنب وظهرا على ظهر ولا تبدي إلا واجهة واحدة هي الأمامية المطلة على الأزقة.
وتشهد أزقة بغداد القديمة التي تتميز بمعمارها البغدادي الجميل وشناشيلها أسوأ احوالها خاصة انها تتعرض الى الاندثار بفعل الزمن حيث تهدم اغلبها وبات البقية على وشك الانهيار من دون ان تلتفت اليها الجهات المسؤولة التي طالما تبرر ذلك بأن البيوت تعود الى مواطنين ولا يمكن اتخاذ أي إجراء، فهذه المحلات في النهار تبدو مخيفة ولا يمكن لشخص بمفرده أن يدخلها، أما في الليل فهي مسكونة بالرعب تماما وكل شيء فيها مخيف حيث الظلام يتسيدها والتوجس يسيطر على من يحاول السير لامتار في ازقتها الضيقة الرطبة غير السوية التي تكثر النفايات في ارجائها بل ان المهدم منها (الخرائب) تحول إلى مكب للنفايات.
ويعاني اغلب ابنية شارع أبو نؤاس على شواطئ دجلة من سوء احوالها حيث تشوهت واعتراها القدم وتهدم الكثير منها حتى باتت تمثل تلوثا بصريا واضحا، وأصبحت مجرد هياكل فارغة فالناظر الى الأبنية سيجد انها اما مهدمة او مهملة وغير مستخدمة او ألقى عليها الزمن تبعاته فتغيرت ملامحها وضاعت الوانها الحقيقية فاكتسبت الوانا باهتة حتى وان حاول البعض إضفاء ألوان جديدة، حتى الفنادق ليست جذابة وغير قادرة على ان تستقطب سائحين كثيرين لأنها ما زالت تحمل المواصفات القديمة والواجهات التي ارهقها الزمن وان كانت تقف قبالة حدائق خضر على شاطئ دجلة، ابنية متعبة وتزداد مع الأيام تعبا وتكاد تنهار اذا ما مرت عليها سنوات أخرى.
هذه المحلة او الحارة التي تقع على شارع الرشيد في مكان مميز جدا والتي كانت من أروع المحلات على مر الأزمنة تحولت الى محال تجارية وورش صناعية فيما 150 بيتا من بيوتها تعرضت للسقوط ولم يبق من ساكنيها الا اقل من 60 بيتا وهذه البيوت يعيش فيها سكانها الذين اضطرتهم الظروف المعيشية الصعبة على البقاء.
ومن المؤسف ان يشاهد المار فيها ذلك الجمال يذوي وتلك البيوت تتصاعد منها الرطوبة فيما مجرى الماء في وسط دروبها الصغيرة ما زال يمتد باحثا عن فوهة مجاري فيما الروائح الغريبة تملأ المكان.
الكثير من البيوت هناك سقطت سقوف طوابقها العليا التي من خشب بعد ان اكلتها الارضة وقست عليها الأزمنة فيما ظهر الكثير من الأبنية متورمة مندفعة الى الزقاق وهناك بيوت سقطت وتحولت الى خرائب تتجمع فيها النفايات تفوح منها روائح عطرة تسيل الدموع، بل ان البعض من سكان البيوت يطلق عليها (مقابر)، فتستغرب كيف يعيش الناس هناك وسط هذه الأجواء التي لا تتوفر فيها ابسط المقومات ،والمنظر كله يقع على شاطئ نهر دجلة لكنه قبيح ومقزز.
يقول أبو علي ، 55 عاما، من أهالي باب السيف: "ظلت هذه المحلات متروكة بعد ان أنشئ شارع حيفا مطلع الثمانينات، ظلت على نفس الهيئة والزمن يلعب بها وحتى لو كانت من حديد فإنها لم تصمد فكيف بها وهي من خشب وطابوق وقريبة من النهر الذي طالما كان يفيض فيؤثر على البيوت وهذه حال هذه المحلات منذ زمن".
وأضاف: "لا اعرف سر اهمال الحكومات المتعاقبة لهذه الأمكنة التي لم يزرها مسؤول حكومي ابدا لكي يعرف كيف يعيش أهلها على الرغم من ان موقعها على النهر ومن الممكن ان تكون فنادق وقصورًا ومتنزهات وكافيتريا وأماكن ترفيه، انا استغرب انها مهملة وهي في قلب بغداد".
وتابع: "مع من نحكي، لقد تعبنا مثلما تعب البلد، يشكون من عدم وجود سكن للناس ويتركون اجمل المناطق مهملة، وكان عليهم إعادة بنائها من جديد بشكل يليق ولكن من يسأل ومن يهتم !".
ولا تختلف منطقة باب الشيخ عن سواها من المناطق البغدادية القديمة، فهي الأخرى يرثى لها، فالبناء القديم ما زال على حاله لكنه في وضع سيئ فهو ما بين مهدم وانقاضه متروكة فيه وما بين على وشك ان يسقط وقد تحولت البيوت الى مصانع صغيرة ومحال تجارية وما زالت المحلة التي كان العالم الإسلامي يجتمع عندها بلا خدمات ومتضررة وبائسة وكل شيء فيها يدعو الى الاستغراب والتساؤل أيضا :كيف يعيش الناس هنا؟
سألت رجل يقف بعربته على شارع الكفاح الذي يمتد الى مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فقال: "منذ ان فتحت عيوني عليها وهي على هذه الحال ، فالكثير من أهلها هجروها بعد ان أصبحت لديهم عوائل كبيرة ولم تعد هذه البيوت الصغيرة تكفيهم ، فاشتراها اهل المصانع لذلك ترى شارع الشيخ عمر كله محال لتصليح المعدات والسيارات.
وأضاف: "نحن مواطنون بسطاء لا نستطيع ان نجبر الحكومة على ان تفعل شيئا لنا والا هل تعتقد ان الحكومة لا تدري كيف يعيش الناس هنا او كيف صارت هذه المحلات القديمة التي اكل الدهر عليها وشرب كما يقولون".
أرسل تعليقك