رضخت سلطات كلية أوريل أخيرا لمطالب مجموعة من الطلاب الناشطين بإمكانية إزالة التمثال، باعتباره رمزا للعنصرية، وعقدت مشورات رسمية حول ذلك، لأن رودس قطب التعدين في القرن التاسع عشر ساعد بريطانيا على استعمار أجزاء كبيرة من جنوب إفريقيا، كما أنه يحمل آراء تسيء إلى القيم الحديثة، واعترفت الكلية بالفعل أن رودس "لديه وجهات نظر غير مقبولة حول العلاقات العرقية".
ويستقر تمثال السير سيسيل رودس كواجهة تاريخية لكلية أوريل بارتفاع 4 أقدام منذ عام 1911، ويعد النصب واحد من ستة تماثيل تذكارية فى الجزء الأمامى من المبنى، ضمن مئات التماثيل التي تنتشر في المدينة الجامعية، ويعد التمثال غير ملحوظ واقعيا، كما يصعب على المارة قراءة النقوش اللاتينية التي تفسر سبب تشييد التمثال، واليوم أصبح التمثال محورا للخلاف الذي اتخذ أبعادا أسطورية تنطوي على قضايا تعكس حساسية عصر التصحيح السياسي الحالي.
وتحدثت الجامعة، في بيان مطول، عن اللياقة السياسية ورغبتها في جعل أكسفورد أكثر تنوعا وشمولا، موضحة أن مؤسس روديسيا ـ وهي زيمبابوى فى العصر الحديث ـ كان مذنبا لاضطهاده المجتمعات السوداء، وبجانب إزالة التمثال تسعى كلية أوريل للحصول على إذن من مجلس أكسفورد لإزالة اللوحة النحاسية المخصصة لخريجى الجامعات، مايعني التخلي عن مبالغ طائلة تبرع بها رودسفس وصيته من أجل منح تعليمية للطلاب بخاصة الأجانب، وشيد النصب الثاني بعد وفاة رودس في 1906 في مبنى الجامعة في شارع الملك إدوارد، تقديرا للخدمات الكبيرة التي قدمها لبلاده.
وأضاف بيان كلية أوريل "تمثل هذه الكلمات تحية سياسية من الملكة فيكتوريا بعد وفاة رودس، إلا أن استمرار عرض اللوحة على ممتلكات كلية أوريل يتعارض مع مبادئها"، وتمثل وجهات نظر السيد رودس صاحب الشخصية المعقدة التي يختلف حولها المؤرخون اليوم خطرا واضحا على التمثال واللوحة. وأدان العديد من النقاد الإزالة المقترحة للتمثال باعتبارها من أعمال التخريب الفكري والجبن الأخلاقي على أساس الجهل، فضلا عن الآثار البشعة للتراث الثقافي، ويقدم السير مايكل هووارد أستاذ التاريخ الحديث فى أكسفورد وجهة نظر مختلفة لمعادلة المسألة أمام الهجوم على رودس، حيث ضم صوته إلى الاجتجاج على ما أسماه بـ"محاولة إعادة كتابة تاريخ الكلية والجامعة"، موضحا أن إزالة تمثال رودس يتماثل مع تدمير داعش للمواقع التاريخية في سورية، وحث هوراد جميع الأعضاء السابقين والحالين فى الجامعة على إبراز اعتراضهم ضد هذا النوع من التعصب.
ويرى آخرون أن تماثيل جميع الشخصيات التاريخية المخلدة من الرخام والحجر الجيرى أو البرونز ربما تكون فعلت أشياء في عصرهم لا تتماشى مع قيم وآراء العالم الحديث حاليا، وعلى سبيل المثال أباح هنري الثامن الإبادة الجماعية الدينية، واستخدم شكسبير أحيانا لغة عنصرية، وكان كرونويل كارها للأيرلنديين، وكان لدى ونستون تشرشل وجهات نظر شوفينية عن الإمبراطورية البريطانية، وبالمثل عاش رودس في أوقات مختلفة تماما حيث كان هناك قيم مختلفة في المجتمع.
وأكد المؤرخ الموثوق إيمون دافى من الكلية المجدلية فى كامبردج، أنه "يجب علينا تطهير تصوراتنا من الماضى، وإذا قبلنا منطق معاداة رودس سنزيل تقريبا كل النصب التذكارية للحروب التاريخية"، ويصبح السؤال لماذا رضخت الجامعة لمطالب الطلاب التى تهز الجامعات فى جميع أنحاء البلاد.
يأتي استسلام الجامعة مع اقتراب نهاية العام الذي أجبر فيه العالم الحائز على جائزة نوبل السير تيم انت على الخروج من جامعة لندن، ومغادرة بريطانيا، بعد اتهامه بمزحة متحيزة ضد المرأة، فضلا عن منع الرائدة النسوية جيرمين غرير من التحدث باعتبارها ربما تسيء إلى النساء المتحولات، وفي الوقت نفسه في الولايات المتحدة سعى الطلاب إلى حظر مجموعة من الأشياء بداية من اليوغا وحتى السوشي على أساس أنها تمثل استيلاء ثقافيا، في حين أوضح محاضرو القانون في جامعة هارفارد أنهم لا يستطيعون تدريس "الاغتصاب" خوفا من إثارة ذكريات صادمة لدى الطلاب.
وأفاد الناشطون في حملة "إسقاط رودس" أن التمثال يمثل العنف على أساس يومي بالنسبة لهم، وذكر متحدث باسم الناشطين "نشعر بالعنف يوميا عند المرور على التمثال في طريقنا إلى المحاضرات، وهناك عنف نشعر به عند مشاهدة لوحة الاستعماري السابق أثناء الكتابة في الامتحانات، إنا مشكلة حقا".
ووصف الناشطون تمثال رودس بكونه قطعة رمزية عنيفة تجعلهم يشعرون بالظلم والتهميش مطالبين بإزالته فورا من المساحات التعليمية، وقاد الطلاب العديد من الحملات من قبل إلا أن ما يجعل حملة إسقاط رودس فريدة من نوعها هو أخذها على محمل الجد، فيما أوضح الأكاديميون أن كلية أوريل باعتبارا مؤسسة مستقلة ترفض مناقشة هذه القضية، ونشرت الكلية بيانا رسميا لها بشأن تمثال رودس على موقعها الإلكتروني من دون توقيع، ويشير هذا إلى اتخاذ القرار من قبل لجنة مكونة من أكثر من 40 زميلا من كبار الأكاديميين، ولم يتضح بعد ما إذا كان هذا القرار اتخذ بالإجماع أو تم التصويت عليه.
ويتوقع ألا تعلق كلية أوريل على أي تفاصيل تتعلق بمستقبل تمثال رودس، ما يعد سرية غير صحية في مؤسسة تمولها الدولة، وفي ظل عدم تحمل أحد القرار بشكل شخصي، إلا أنه يتوقع أن اثنين من كبار المسؤولين في الجامعة وهما مديرة الجامعة ونائبها، متورطان في هذا القرار، علما بأنهما من أعضاء المؤسسة الليبرالية.
وتعد مديرة الجامعة مويرا ولاس موظفة مدنية كانت تعمل سابقا في داونينغ ستريت تحت إشراف جون ميجور، وأصبحت في حماية توني بلير عندما عينها لقيادة وحدة الاستبعاد الاجتماعي التي أنشئت بغرض مساعدة الفقراء والمحرومين، وقضت والاس فترة كمديرة للشرطة ومكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية، واعتبرت حينها حليفا وثيقا لقائد شرطة العاصمة السير أيان بلير، الذي تلاحقه تساؤلات حينها حول حكمه وسياسته في التصحيح السياسي للشرطة، ثم أصبحت السكرتير العام في وزارة شؤون الطاقة وتغير المناخ، لكنها غادرت في 2012 بعد التقارير المتضاربة مع وزراء التحالف في محاولة لكبح جماح الإنفاق العام على دعم الطاقة الخضراء، وحصلت والاس على مكافأة 470 ألف إسترليني من الأموال العامة. ولا يمكن معرفة الدور الذى لعبته السيدة والاس بشأن تمثال رودس نظرا لرفض كلية أرويل مناقشة الأمر، إلا أنه من الصعب الاعتقاد بأن قرار الجامعة لم يحظى بموافقتها.
أما عن نائب رئيس الجامعة فهي البروفيسور أنيت فولفينغ خبيرة الأدب في العصور الوسطى المولود في الدانمارك، والتي استخدمت صفحتها على فيسبوك لنشر عريضة لدعم اليسار، وعلى سبيل المثال دعت فولفينغ البابا فرنسيس إلى عزل الأسقف المعادي للمثلين في أوغندا، ونظمت حملة لوقف ترحيل نيجيرية طالبة للجوء زعمت أنها تخشى تشويه الأعضاء التناسلية لابنتها إذا عادت إلى إفريقيا، كما انتقدت وزير التعليم مايكل جوف لموقفه من الفنون في مدارس الأطفال.
وفي إطار مواقف السيدة فولفينف (50 عاما) لم يعد غريبا أن تلعب دورا في الاحتجاجات المناهضة لرودس، وأن تستمتع إلى مطالب الطلاب، لكنها لم تستجب عندما طُلب منها التعليق على الأمر، ولم يتضح بعد الشخص المسؤول في أوريل عن الاستجابة لمطالب الطلاب.
أما عن هوية قائدي حملة إسقاط رودس فههم معروفون الهوية ومنهم "آن تريبا" (20 عاما) وهي ناشطة مثلية في مجال حقوق النسوية وتدرس التاريخ في كلية وادام، وعضوة في الاتحاد الوطني للطلاب السود.
وعملت تريبا محررة في مجلة لحقوق المثليين، ونظمت حملة ضد الاغتصاب، وكانت عضوا بارزا في الحملة الوطنية المضادة للرسوم الدراسية، لكنها تنحت في أكتوبر/ تشرين الأول بعد نشر رسالة مفتوحة تعترف فيها على الإنترنت بممارستها الجنس مع امرأة دون موافقتها، في حين نددت زميلاتها الناشطات النسويات اليساريات بأفعالها.
وقاد نتوكوزو كوابي الطالب من جنوب إفريقيا فى وقت لاحق حملة إسقاط رودس، ويعد كوابي من بين 89 طالبا من الباحثين في برنامج منحة رودس التي تستفيد من إرثه، ويوفر برنامج رودس الدراسة في أكسفورد للطلاب الأجانب بتكلفة قدرها 8 ملايين إسترليني سنويا، وعند اتهام كوابي بالنفاق بعد قبولة منحة رودس الدراسية قال إنه يسترجع جزءا مما نهب في الأصل من قبل المستعمرين من إفريقيا.
وأضاف كوابي، للقناة الرابعة، "من الخداع القول بأنني استفدت من رودس، هناك الكثيرون مثل رودس ممن قتلوا الكثير من الناس واستفادوا من أموالهم"، ويستخدم كوابي صفحت على فيسبوك لدعم مجموعة من الأفكار اليسارية، وكان أكثرها جدلا في الأيام التي أعقبت هجمات باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني عندما أطلق حملة هجومية للغاية لإقناع أقرانه بعدم التعاطف مع فرنسا، وكتب كوابي "أرفض المحاصرة بواسطة هاشتاج البيض لتوضيح الخسائر في الأرواح في ولايات فرنسا التي ظلت لسنوات تواصل ترويع الأبرياء باسم الإمبريالية والاستعمار والوحشية العنيفة، لا أتعاطف مع فرنسا في الوقت الذي تواصل فيه الإرهاب في إفريقيا والشرق الأوسط لمصالحها الإمبريالية".
وتضم صفحة حملة إسقاط رودس على فيسبوك بعض التعليقاء القبيحة التي تصل إلى حد العنصرية والعدوان من مؤيدي الحملة، وعلى سبيل المثال انتقد شخص يدعى سيمون ستار ظهور المحامية السوداء صوفيا كانون على القناة الرابعة لمواجهة كوابي، وأضاف ستار "إلى الجحيم مع رودس وكل ما يحاول الدفاع عن الاغتصاب والقتل والسرقة"، ولا تزال هذه التعليقات موجودة على صفحة الحملة على فيسبوك.
ويتوقع في حالة نجاح حملة إسقاط رودس أن يتجه النشطاء إلى منحته الدراسية الشهيرة التي تمول تعليم الطلاب الأجانب في أكسفورد، وعلى مر السنين استفاد الكثيرون من هذه المنحة ومنهم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وتوني أبوت رئيس الوزراء الأسترالي المخلوع مؤخرا، ودعا أبو الجامعة إلى عدم إزالة التمثال، مضيفا "إن إزالة تمثال رودس ستقلل من مكانة الجامعة العريقة إذا ما استجابت للغرور المعنوي بدلا من الإنصاف، ويجب على الجامعة وطلابها تحسين معتقداتهم اليوم بدلا من فرضها على أسلافنا، ويجب أن تتذكر الجامعة أن مهمتها ليست في اتباع القيم الحديثة فحسب بل البحث عن الحقيقة، هو ما يتطلب السع إلى الفهم قبل الاندفاع".
ويبدو أن ما فشل ناشطو حملة إسقاط رودس فى فهمه هو أن الحاصلين على منحة رودس لا يختلفون كثيرا عن المليونير الاستعماري، وأفادت مؤسسة رودس التي تدير المنحة الدراسية أن 43% ممن حصلو على المنحة من طلاب الأقليات العرقية السوداء وغيرها وأن المؤسسة تعتمد على مبدأ المساواة العرقية كقيمة أساسية لها.
وقارن متحدث با سم مؤسسة رودس بينه وبين ألفريد نوبل صانع الذخائر والديناميت الذي يمول جائزة نوبل، موضحا أن رودس كان رجلا معقدا وترك ثروة لإنشاء مؤسسة مهمة تجعل العالم مكانا أفضل، ولا يعد قبول منحة رودس تأييدا لآرائه السياسية، وربما لا يستحق من لا يفهمون هذه الحقيقة مكانا في واحدة من أفضل الجامعات البريطانية.
أرسل تعليقك