أثبت العلم مرّة أخرى، بعد التريليون على الأقل، أن أبرز ما يميّزه هو عقليّة النـــقد فيه، وتأتي تلك الكلمات إلى الذهن عند سماع علماء "ناسا" وهم يبدون حيرتهم حيال طريقة تشكيل أقمار "بلوتو" الأربعة وحركتها، ويشبّهونها بـ "ثلــة مراهقين معاندين"، في إشارة إلى عدم انسجام أوضاع تلك الأقمار مع النظريات العلميّة المعروفة حاضرا عن تشكّل المجموعة الشمسيّة.
والطريف أن "بلوتو" نفسه، يظهر مدى ميل العِلم إلى نقد نفسه باستمرار، إذ يحمل حاضرًا لقب "الكوكب القزم"، بعد نقاش علمي لم ينتهِ عن مدى انطباق أوصاف الكوكب السيّار عليه، بمعنى أن يكون ككوكب الأرض، مع الإشارة إلى أنه صُنِّف آجالا طويلة بوصفه الكوكب السيّار التاسع في المجموعة الشمسيّة.
ولم يقلق العلماء من وجود دليل قريب على أن نظرياتهم العلميّة ربما كانت خطأً، بل إنهم أول من استخلص أن الطريقة غير المتوقّعة التي تتصرّف بها أقمار "بلوتو"، تتحدّى نظريات علميّة عن الفضاء، لا شيء مهينًا في العلم، سوى التشبّث المعاند بما يثبت خطأه، والإمعان في ضرب الرأس بحائط الحقائق، ولا شيء أفضل في العلم من تمحّص الأدلة والاعتراف بأن نظرية ما، مهما علا شأنها، ربما تكون مخطئة جزئيّا أو كليّا، أو أنها تنطبق في سياقات معيّنة ولا تنطبق في أخرى، بمعنى أنها بعيدة من أن تكون شاملة وغيرها.
نقد العلم: هشاشة وقوة خارقة
مع النقاش عن أقمار "بلوتو" القزم، من المستطاع بسهولة استعادة المقولة الذائعة الصيت للمفكر العلمي كارل بوبر (توفيّ في 1994)، الذي جعل من القدرة على تكذيب العلم باستمرار، المؤشّر على أن ما يجري التفكير فيه هو علم، وليس أيديولوجيا ولا دين، (من المستطاع الرجوع إلى كتاب "منطق البحث العلمي" لبوبر، وهو مترجم إلى العربيّة، ومن الممكن تحميله مجانا عن الإنترنت).
ووفق بوبر، تشكّل تلك الهشاشة إحدى أقوى نقاط العلم: أنه من المستطاع في أي لحظة، تقديم دليل على عدم صحة "شيء ما" في العلم، كي ينطلق مسار التفكير في تبديله. لا شيء يدخل دائرة المطلق في العِلم. وعندما قيل للعالِم آلبرت أينشتاين، أن مائة عالِم وقّعوا وثيقة ضد نظريته في النسبيّة، ضحك وقال: "لماذا مائة؟ إذا كنت مخطئا، يكفي عالِم واحد كي يثبت ذلك". وحدث ذلك فعليّا، إذ استطاع عالِم الفلك الأميركي الشهير إدوين هابل، أن يثبت لأينشتاين أن الكون يتوسّع باستمرار، بالتعارض مع مقولة الأخير عن ثبات حدود الكون.
المفارقة أن فكرة التوسّع راودت ذهن أينشتاين أصلا، لكنه رأى أنها تعقّد الأمور كثيرا، فأدخل على معادلاته عن النسبيّة ما سمّاه "الثابت الكوني"، كي تستقر المعادلات وتكون للكون حدود معيّنة، وعندما أثبت هابل خطأ أينشتاين، قال الأخير إن "الثابت الكوني" لم يكن سوى التباس كبير، بل إنه "الخطأ الأكبر في حياتي"، وفق كلمات أينشتاين.
قبل أيام، لاحظ الفريق العلمي المُشرِف على تلسكوب الفضاء "هابل" (وهو يحمل اسم عالِم الفلك إدوين هابل، على سبيل التكريم)، أن الأقمار التي تدور حول الكوكب القزم "بلوتو" تبدي عشوائيّة في حركاته، بمعنى أن تلك الحركات لا تتطابق مع المعادلات الرياضيّة التي يعتمدها علماء الفلك في حساب حركة الكواكب السيّارة في النظام الشمسي وأقمارها. وعلى سبيل التفكّه، شبّه العلماء ذلك الاضطراب بأنه تصرفّات مراهقين. ويملك "بلوتو" 4 أقمار صغيرة، هي: "ستيكس"، "نيكس"، "كيربيروس"، و"هيدرا"، إضافة إلى قمره الأساسي الكبير المُسمّى "شارون"، وهو تابع مباشر لـ "بلوتو". والمفارقة، أن "بلوتو" و "شارون" يشكّلان ثنائيّا يدور حول نقطة مركزيّة مشتركة، كما يفعل ثنائي رقصة "الفالس"، وتدور الأقمار الأربعة الصغيرة حول ذلك الثنائي الراقص.
وكذلك، لاحظ فريق التلسكوب "هابل"، أن الضوء الصادر من الأقمار الصغيرة متفاوت تمامًا، ما لا ينسجم مع نظريات العلم الحديث عن تشكّل المجموعة الشمسيّة وكواكبها وأقمارها، التي تتوقع أن يكون ضوء الأقمار الأربعة متقاربًا على الأقل.
وبتواضع علمي أصيل، أقرّ الفريق بأن هناك غموضًا يتوجب جلاؤه في شأن أقمار "بلوتو"، خصوصًا أنه لا يملك تفسيرًا واضحًا أيضًا لحركة تلك الأقمار الصغيرة. إذ بدت ثلاثة منها وكأنها فريق واحد منسجم في حركة دورانه، لكنها لا تستمر على ذلك الانسجام، بل تدخل في مراحل من الحركات المضطربة، ما لا ينسجم مع ما نظريات العلم.
وفي التفاتة علميّة أصيلة، خلص الفريق إلى القول أن خروج أقمار "بلوتو" عن النظريات العلميّة أمر إيجابي، لأنه يقدّم للعلماء فرصة لتمحيص نظرياتهم عن الفضاء ونقدها وتطويرها.
عندما كان الـ "بيغ - بانغ" تغييرًا
في الأزمنة الحاضرة، تعتبر نظرية "الانفجار العظيم" ("بيغ - بانغ" Big Bang) أحدث تفسير لمُنظّري علم الفلك عن أصل الكون ونجومه ومجراته. وتبلورت تلك النظرية في الصيغة التي يجري التداول بها راهنًا، على يد عالم الفلك الأميركي جورج غاموه، في حقبة الأربعينات من القرن العشرين.
ولم تظهر نظريّة الـ "بيغ - بانغ" إلا عبر تدرّج علمي طويل، وفي المدى الزمني المباشر، استند غاموه إلى إنجاز العالِم الأميركي إدوين هابل، الذي وضع نظرية "الكون المتوسّع". وغيّرت نظرية "بيغ بانغ" من نظرة البشر إلى الكون، ربما بما يُشبه ما فعله "انقلاب" العالِم كوبرنيكوس على نموذج العالِم اليوناني بطليموس عن النظام الشمسي.
وقبل كوبرنيكوس، وعلى مدار مئات السنوات، استقر رأي العلماء على الأخذ برأي بطليموس بأن الأرض هـــي مركز النظام الشمسي، بل إن الشمس نفسها تدور حول الأرض! ولاقى ذلك النموذج دعما من الملاحظة البديهيّة العاديّة، التي تتمثّل في رؤية العين للشمس تدور في قبة السماء شروقا وغروبًا، إضافة إلى كون نظرية بطليموس كانت تستند إلى فلسفة أرسطو التي تبنتها الكنيسة الكاثوليكيّة.
وعرف علماء الفلك في الحضارة الإسلامية العربية رأي بطليموس، وحفظوه في مؤلف "المجسطي الكبير"، وفي المقابل، قدّم كثر من علمائهم، خصوصًا عالِم الفلك إبن الشاطر الذي عمل في مرصد "مراغة"، نموذجًا مُغايرًا يقول إن الشمس هي المركز، والأرض كوكب يدور حولها.
أرسل تعليقك