عمان – العرب اليوم
كشف الكاتب والمحلل السياسي خيري منصور، إن إطلاق مصطلح "الربيع العربي" على ما حدث ويحدث اليوم في العالم العربي، هو "إسقاط تاريخي لا يخلو من تقمّص"، مشيرًا إلى أن لفظة "الربيع" تم استخدامها في أوروبا مرتين، الأولى العام 1848 لوصف ما تمر به القارة من حراك وتحولات، والثانية العام 1968 لوصف أحداث براغ، واجتياح الجيش السوفيتي لها.
وأكد منصور، في المحاضرة التي ألقاها في منتدى عبد الحميد شومان في العاصمة الاردنية عمان، وقدمه خلالها وأدار الحوار الدكتور إبراهيم عثمان، أن ما حدث أقرب إلى "خريف البطريرك منه إلى ربيع الناس، لأن معظم النظم التي تداعت وأسقطت كانت تعيش أرذل شيخوختها؛ سياسياً وثقافياً واقتصادياً"، ما أدى إلى أن يتحول من حراك إلى انفجار مكبوتات عديدة داخل المجتمع العربي، مبينا أن المجتمعات العربية التي غرقت في الدم، فجرت مكبوتاتها الجسدية والطبقية والإثنية والتعبيرية.
وأوضح المحاضر أن ما حدث ويحدث اليوم في العالم، لا يمكن فهمه ضمن السياق السياسي فقط، بل يتوجب دراساته ضمن جميع السياقات، مشدداً على أن ما آلت إليه الحال بعد السنوات العجاف تلك، لم يكن خريفاً أو صيفًا أو شتاءً بعد ربيع، بل هو فصل خامس غير معروف، مشددًا أن العرب يمارسون اليوم ما يمكن تسميته "الانتحار القومي"، المتمثل في حروب الإبادة التي ينخرطون فيها، لافتاً إلى أن هذه الحروب قتل العرب فيها عرباً يفوق عددهم 100 ضعف عما قتله الأعداء منهم.
وقال منصور إن معظم المثقفين العرب الذين عالجوا مسألة الحراك "لم يبحثوا في جذوره الاجتماعية والسياسية والتاريخية"، لافتاً إلى أن كاتباً إسبانياً هو خوان غواتسيلو "كان الوحيد الذي انفرد باستقراء هذا الحراك في ضوء الفلسفة الخلدونية"، موضحًا أن مفهوم النخب العربية بتضاريسها المختلفة يضعنا إزاء سؤال مدى تجانس تلك النخب وتعبيرها عن المواقف ذاتها.
وأشار إلى إضمحلال الطبقة الوسطى، والتباين الشديد بين أنماط الإنتاج في العالم العربي، ضاعف من الافتراق والحد من التجانس بين النخب العربية، لذلك لم تكن شعارات الحراك متجانسة، فهناك من طالبوا بإسقاط نظم، وآخرون طالبوا بالإصلاح، وفئة ثالثة لم تطمح إلا بتحسين شروط التبعية، وأن النخب العربية أعادت إنتاج ذاتها من خلال "تقويل" نصوصها القديمة، وما كتبوه سابقا، من أجل تبرئة أنفسهم من تهمة الصمت والتواطؤ، وأنها نخب "امتلكت، بسبب فائض القهر والكبت، مهارات المكر وإعادة إنتاج المكتوب".
ولفت إلى أن الحراك العربي فضح "بطالة أحزاب سياسية ونخب بدأت تستلهم بوصلتها من الميادين والشوارع وهتافات المتظاهرين، لهذا مكثت في نطاق الانفعال ولم تدخل حيّز الفعل"، مضيفًا: "للنخب العربية حصتها من العشوائية؛ فالعشوائيات ليست أحياء تراكمت لتسرطن عافية العواصم بقدر ما هي وباء ذهني طال الثقافة والاقتصاد والتربويات، إضافة إلى العمران".
وقال منصور إن هذه العشوائية تتضح عبر العديد من التجليات: ندوات تهرّب الواقع وتستبدل قضاياه وأولوياته، وفي التقمص الحداثوي أيضا، ومنها أن "من يعيشون ما قبل الدولة ينهمكون في سجالات حول الحداثة"، وأنه سبق وأن تم إجهاض حراكات عديدة منذ نهضة القرن التاسع عشر "وسوف تستمر القابلة غير القانونية بخنق الأجنة في الإرحام إذا بقينا في نطاق المراوغة وتكسير المفاتيح في غير أقفالها. وأضاف "ما كتب منذ أكثر من ربع قرن عن سيكولوجيا المقهورين والذات العربية الجريحة ونذر طرد العرب من التاريخ إضافة إلى الجغرافيا وفائض الهوية والمواطنة والفهلوة، بقي طي الرفوف، أو أنها كتب ألقيت في بئر مهجورة.
ورغم إشارة المحاضر إلى أن هناك نخبة "لم ترتهن لنظم أو رشاوى"، إلا أنه أكد أن أصواتها "تلاشت في أسواق النحاس حيث الأعلى هو الطبل أو المطرقة"، وكل حراك وكل ثورة يجترحان أفقاً جديداً بعد انسداد الآفاق كلها "لكن ما نخشاه هو أن يبقى فقه إعادة إنتاج القديم وفاقد الصلاحية على ما هو عليه ما دامت النخب تراوح بين منزلتين؛ بين ماض لم يمض وحاضر لم يحضر ومستقبل مشكوك في إقباله كما نحلم".
أرسل تعليقك