نبدأ ببعض المعلومات.
مات الآلاف فى الأعوام الأخيرة بسبب حوادث التدافع، والكثير منهم كان فى احتفالات دينية. يرصد موقع الـ«بى بى سى» العربى أهمها:
فى يناير 2011، كيرالا، الهند، أكثر من 102 شخص قُتلوا فى تدافع حدث أثناء عودتهم من معبد هندوسى فى ساباريمالا. ويقع المعبد فى منطقة معزولة وجبلية وبها غابات كثيفة.
فى نوفمبر 2010، بنوم بنه، كامبوديا، أكثر من 375 شخصاً قُتلوا أثناء التدافع على جسر فوق نهر تونلى ساب أثناء الاحتفال السنوى بمهرجان المياه. ووصف رئيس الوزراء، هون سين، الحادث بأنه «المأساة الأكبر» التى تضرب البلاد منذ «الخمير الحمر».
فى سبتمبر 2008، راجاستان، الهند، توفى أكثر من 220 شخصاً فى تدافع فى معبد شاموندا ديفى الهندوسى، داخل قلعة المهراجا المعروفة فى مدينة جودبور.
فى أغسطس 2008، هيماشال براديش، الهند، توفى 140 شخصاً على الأقل فى تدافع فى معبد هندوسى أعلى أحد التلال شمالى الهند. وكانت إحدى مظلات المطر قد انهارت فى طريق جبلى يؤدى إلى معبد نايناديفى، بسبب سوء الأحوال الجوية، وسبّب الانهيار حالة من الذعر، فأدى إلى التدافع، وجُرح العشرات فى هذا الحادث.
يؤدى أكثر من مليونى حاج مناسك الحج هذا العام، وهو أكبر تجمع بشرى فى العالم قاطبة.
ويشارك عشرات الآلاف من الجنود وقوات الدفاع الوطنى فى توفير الحماية والسلامة للحجاج.
وأنفقت الحكومة السعودية، ولا تزال تنفق بسخاء شديد، مبالغ طائلة على البنية التحتية وإجراءات السلامة والأمن والراحة لتسهيل أداء مناسك الحج وزيادة أعداد الحجيج.
وكان آخر هذه الحوادث المؤسفة فى عام 2006 حيث قُتل 346 حاجاً أثناء أداء شعيرة رمى الجمرات فى ذات الشارع.
ويُعتبر اليوم الأخير من أداء مناسك الحج الأكثر خطورة لأن مئات الآلاف من الحجاج يحاولون تأدية هذه الشعيرة فى نفس الوقت وفى نفس المكان.
هذه مجموعة من المعلومات الأساسية، والآن لإجابة السؤال موضوع المقال.
ككل قضية هناك أربع إجابات محتملة:
إجابة نابعة من التفكير الدينى الصرف من قبيل هى إرادة الله، وهم شهداء، وهذا قدر الله، وهذه أعمارهم. ولكن حتى داخل هذه الإجابة الدينية هناك منطق آخر وهو «نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله». ولنجتهد فى أن يكون الحج آمناً سالماً بكل ما نستطيع من قدرات.
هناك إجابة ثانية نابعة من التفكير الفلسفى من قبيل أن الموت هى نقطة التقاء إرادات جزئية لأفراد قد لا يعرف بعضهم بعضاً ولكنهم أسباب فى مصير واحد لا يمكن تغييره أو تعديله، ومن لم يمت فى الحج سيموت فى غيره ولا مجال للمفاضلة بين أماكن الموت لأن الموت حقيقة ليست موضع نقاش.
إجابة ثالثة نابعة من التفكير الخزعبلى الذى يربط متغيرات لا علاقة لها بالوقائع ولا تقوم عليها أدلة بأن الموت فى الحج هو مؤامرة شمالية جنوبية برازيلية زاحفة للنيل من المسلمين دون أى دليل على صحة هذا الكلام. والحل أن كل حاج يأخذ معه المرة المقبلة «حجاب» ثمنه 500 جنيه بس.
إجابة رابعة نابعة من التفكير العلمى القائم على مناقشة الحوادث المباشرة التى أفضت فى النهاية إلى واقعة التدافع مثلاً. وهنا تفيد الكاميرات التى يقومون بتركيبها لتوضيح كيف بدأ التدافع وعند أى لحظة زمنية وبسبب من وكيف تفاقمت الأمور وصولاً إلى الإصابات والموت.
التفكير الدينى يربط حوادث الكون بخالق الكون، التفكير الفلسفى يربط حوادث الكون بقوانين عليا للحياة تنطبق علينا جميعاً بغضّ النظر عن سلوكنا الشخصى، التفكير الخزعبلى يربط حوادث الكون بأسباب لا يمكن إخضاعها للدراسة المنضبطة، التفكير العلمى يبحث فى الخطوات الجزئية والقرارات الفردية التى تفاعلت وأنتجت فى النهاية الظاهرة موضع الدراسة.
هذه ليست بدائل منفصلة، ولكن بروح من الدين نكون مطالبين بأن نفكر بشكل علمى وفلسفى عالمين بأن هناك قواعد عليا تحكم الكون وأنماطاً فكرية وسلوكية تسيطر على البشر. ولهذا قيل: فلسفة الدين وفلسفة العلم وفلسفة السياسة... إلخ.
قابلت فى حياتى العديد من المسلمين الذين دخلوا الإسلام حديثاً، وحين عادوا من الحج تراجعوا عن الاستمرار فى الإسلام بسبب سلوك المسلمين هناك.
كنت مطالباً بأن أساعدهم على فهم المعضلة، فكنت أقول: «بعض المسلمين ليسوا على قدر الإسلام ليس بسبب الإسلام ولكن لأنهم لا يلتزمون بتعاليمه».
بعض المسلمين «جهلة» بمعايير دينهم، وبمعايير العلم، وبمعايير الفلسفة. ونقطة البداية فى التغلب على هذا الجهل هو أن نعترف به.
مثلاً يعيش المسلمون معضلة تاريخية يسميها أهل الاختصاص «تراجيديا المشاع» (Tragedy of the commons) والتى تعنى أن يقوم الأفراد بشكل مستقل وبحسابات ضيقة وقصيرة المدى باتخاذ قرارات يظنون أنها تخدم مصالحهم ولكنها فى النهاية تدمر الصالح العام على المدى الطويل. أى هم يغلّبون الصالح الشخصى على المدى القصير على حساب الصالح العام على المدى الطويل. وهذا ما يجعل أحدنا يصطاد الأسماك وهى صغيرة جداً من البحيرة المشاع لأنه لا يعلم أو لا يهتم بأن يتركها تكبر قليلاً فتبيض آلاف الأسماك التى تعطى للبحيرة حياتها الصحية، ولكننا نغلّب الشخصى قصير المدى على العام طويل المدى. وهو ما يجعلنا ننجب أطفالاً وراء أطفال ونحن لا نحسن التربية ولا التعليم تحت شعارات إن «العيال خير ورزق». وهو ما يجعلنا حين نجد تدافعاً فى أماكن مزدحمة نحاول أن ننجو بأنفسنا فنعرّض حياة الآخرين للخطر، وحين يتصرفون بنفس الطريقة يعرضون حياتنا للخطر كذلك.
أوضحت السلطات السعودية أن التدافع الذى أدى إلى مقتل 717 شخصاً وجرح 863 شخصاً «ربما تسبب فيها حجاج لم يلتزموا بالتعليمات الرسمية»، متعهدة بسرعة استكمال التحقيق فى الحادث.
لو عدنا إلى قائمة أهم حالات التدافع الواردة فى بداية المقال فسنجدها بين الهند وكمبوديا وموسم الحج. لا أود أن أوجه انتقادات عبثية لأى طرف، لأن التحقيقات لم تتم بعد. ولكن علينا أن نجيب على سؤال آخر وهو: ما الحل؟
التوعية والإبداع والانضباط.
معظم من يحجون يحصلون على تأشيرات دخول، لا بد مع التأشيرة من تدريب سريع على أبسط قواعد حماية النفس والآخرين، مثل تعريف المتزوجين حديثاً بأهمية ألا ينجبوا فى العامين الأولين للزواج للتأكد من استمرار الزيجة أولاً.
الحج عرفة، وعرفة مكان وليس زماناً ورمى الجمرات مرتبط بمكان وليس بزمان، هل يمكن أن تكون هناك مساحة زمنية أطول لأداء المناسك بحيث لا يكون مبرر التدافع قائماً؟
حكومة المملكة تبذل جهداً ملحوظاً كى يكون الحج أيسر وأسهل وأكثر أمناً، ولكن التحديات أيضاً تتزايد، ولا بد من توعية الحجاج، وتدريب قادة كل مجموعة من الحجاج على إجراءات السلامة الواجبة فى هذا المقام.
المشكلة يقيناً ليست فى الإسلام، ولكنها فى عقول بعض المسلمين.
رحمة الله على الجميع.