من الصعب إعادة 'حزب الله' إلى جادة الصواب. سيبقى هدفه تعديل النظام في لبنان، بما يتناسب مع الطموحات الإيرانية.
مرّت قبل أيّام الذكرى السنوية الثانية على الفراغ الرئاسي في لبنان. يتطابق تاريخ الذكرى الأليمة التي تعكس المأساة التي يعيشها لبنان مع الذكرى السادسة عشرة للانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وتنفيذ القرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 1978.
كان الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في الخامس والعشرين من أيّار ـ مايو 2000 انتصارا لـ”حزب الله” الذي تبيّن في نهاية المطاف أنّه وظف هذا الانتصار في الداخل اللبناني وصولا إلى منع انتخاب رئيس للجمهورية قبل إعادة النظر في اتفاق الطائف. يعطّل “حزب الله”، ومن خلفه إيران، انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية من منطلق أن موازين القوى التي أدّت إلى اتفاق الطائف لم تعد قائمة. ليس مسموحا بعد الآن عدم تمثيل الطائفة الشيعية في لبنان على مستوى السلطة التنفيذية بما يناسب الحجم الجديد الذي صار للطائفة بعد العام 2000، أي بعد الذي تعتبره إيران انتصارا على إسرائيل.
كان في الإمكان اعتماد هذا المنطق والأخذ به لولا أن “حزب الله” احتكر مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالقوّة من جهة وأنّه ليس سوى ذراع إيرانية من جهة أخرى. ليس الهدف إعادة التوازن إلى الوضع الداخلي اللبناني بمقدار ما أنّ المطلوب استخدام وضع إيران يدها على الطائفة الشيعية الكريمة من أجل تحويل لبنان إلى مجرّد مستعمرة وبيروت إلى مجرّد مدينة إيرانية مطلّة على المتوسط. أكثر من ذلك، تسعى إيران إلى أن تكون على تماس مع إسرائيل في جنوب لبنان بغية المتاجرة بالورقة اللبنانية في المساومات مع “الشيطان الأصغر” الإسرائيلي، على غرار المساومات التي أجرتها مع “الشيطان الأكبر” الأميركي والتي توجت بالاتفاق النووي في تمّوزـ يوليو من العام الماضي.
ما نشهده حاليا على صعيد الفراغ الرئاسي في لبنان يشكل تتويجا للانتصارات التي حققها “حزب الله” على لبنان منذ العام 2000، عندما قرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك الانسحاب من جانب واحد تنفيذا لوعد قطعه خلال حملته الانتخابية. لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان خطوة بريئة بأيّ شكل.
كان الهدف النهائي جرّ ياسر عرفات إلى الاعتقاد أنّ في استطاعته تكرار تجربة جنوب لبنان في الضفّة الغربية. سقط ياسر عرفات وقتذاك في الفخّ الإسرائيلي. لم يستوعب أن جنوب لبنان شيء والضفّة الغربية شيء آخر.
هذا هو السبب الذي دفع الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني إلى اتخاذ قراره الخاطئ والقاضي بعسكرة الانتفاضة الثانية التي بدأت بزيارة أرييل شارون لحرم المسجد الأقصى بطريقة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها استفزازية.
ظنّ “أبو عمار” أن إسرائيل لن تكون قادرة على تحمّل مقتل بضع عشرات من جنودها في الضفّة الغربية وأنّها ستنسحب منها بمجرّد وقوع خسائر في صفوف جيشها، تماما كما حصل في جنوب لبنان.
فاجأ القرار الإسرائيلي بالانسحاب من جنوب لبنان النظام السوري. وُجد في لبنان من يجد وسيلة تبرّر بقاء الجنوب جرحا ينزف. حصل ذلك عن طريق افتعال قضيّة مزارع شبعا، وهي أرض لبنانية ضمتها سوريا إليها في الخمسينات من القرن الماضي ولا ينطبق عليها القرار 425.
كانت إسرائيل، ولا تزال، تمتلك ما يكفي من الخبث لجرّ “حزب الله” أكثر إلى التدخّل في الشأن اللبناني وتخريب الحياة السياسية في البلد فضلا، بالطبع، عن ضرب كلّ محاولة تستهدف تقدّم مشروع الإنماء والإعمار.
لم يخيّب “حزب الله”، الذي كان مصرّا بدعم من النظامين الإيراني والسوري، على المتاجرة بقضية مزارع شبعا، الآمال الإسرائيلية. لم يفعل منذ الانسحاب الإسرائيلي سوى التدخل أكثر في الحياة السياسية اللبنانية وصولا إلى اغتيال رفيق الحريري في العام 2005 وما تلاها من جرائم استهدفت اللبنانيين الشرفاء، من سمير قصير إلى محمّد شطح، ثمّ حرب صيف العام 2006 التي استكملت باحتلال لوسط بيروت لتعطيل الحياة الاقتصادية في البلد وتهجير أكبر عدد من الشباب المتعلّم منه.
ليس منع انتخاب رئيس للجمهورية سوى حلقة أخرى من الانقلاب الذي ينفذه "حزب الله" الذي غزا بيروت والجبل في أيار ـ مايو من العام 2008 وقبل على مضض انتخاب رئيس للجمهورية هو العماد ميشال سليمان الذي بنى عليه الإيرانيون آمالا كبيرة في مرحلة معينة
ليس منع انتخاب رئيس للجمهورية سوى حلقة أخرى من الانقلاب الذي ينفّذه “حزب الله” الذي غزا بيروت والجبل في أيّارـ مايو من العام 2008 وقبل على مضض انتخاب رئيس للجمهورية هو العماد ميشال سليمان الذي بنى عليه الإيرانيون آمالا كبيرة في مرحلة معيّنة.
منذ العام 2000، إلى يومنا هذا، بات “حزب الله” يعتقد أنّه حقّق ما يكفي من الانتصارات على لبنان بما يسمح له بإعادة النظر في النظام اللبناني وفرض ما يسمّى “الثلث” المعطل في صلب الدستور. إنّه يبحث صراحة عن دستور جديد لا أكثر ولا أقلّ. مثل هذا الدستور سيعكس توازنا جديدا فرضه “حزب الله” بواسطة سلاحه بعيدا عن المناصفة، بين المسيحيين والمسلمين، التي تعتبر أهمّ ميزات اتفاق الطائف في وقت طغى المسلمون عدديا في البلد.
إلى أيّ حد سيذهب “حزب الله” في انتصاراته على لبنان متذرّعا بـ”المقاومة”؟ ليس هناك ما يبشّر بالخير على الرغم من ظهور مقاومة للهيمنة الإيرانية في لبنان من داخل الطائفة الشيعية نفسها. هذه المقاومة الحقيقية كانت السّمة الأبرز للانتخابات البلدية الأخيرة، وهي تعبّر، في جانب منها، عن رفض شيعي واسع لتورّط “حزب الله” في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري من منطلق مذهبي بحت.
أكثر من ذلك، تعبّر هذه المقاومة عن رفض عدد كبير من الشيعة لممارسات “حزب الله” التي تشمل عزل لبنان عن محيطه العربي وتأليب أهل الخليج على اللبنانيين!
من الصعب إعادة “حزب الله” إلى جادة الصواب. سيبقى هدفه تعديل النظام في لبنان، بما يتناسب مع الطموحات الإيرانية. هل الوقت يلعب معه أو ضدّه؟ إنه السؤال الذي يطرح نفسه في وقت ليس ما يشير في الأفق إلى أن رئيسا للجمهورية سينتخب غدا.