تستحق مبادرة "زي" أن يُسلّط الضوء عليها نظراً لأهميتها الثقافية، إذ إنها تُعنى بجمع التراث المادي عموماً والملابس خصوصاً بهدف الحفاظ على التراث الإنساني. أطلقت المبادرة د. ريم طارق المتولي، وهي مؤلفة وناشرة، تتمتع بخبرة تزيد عن ٤٠ عاماً في مجالَي الفن والتراث. تستثمر د. المتولي في مجموعة من الملابس التراثية التاريخية منذ عدة عقود. ويعتمد جوهر مجموعة زَيّ على الملابس التقليدية الإماراتية، بالإضافة إلى أمثلة من الكويت، البحرين، عُمان، المملكة العربية السعودية، قطر، اليمن، العراق، سوريا، المغرب، تونس، مصر، وغيرها من الدول. وتتضمن مجموعة زَيّ أمثلة جرى الحصول عليها من العائلات التي تعيش في المناطق النائية وكذلك من العائلات الحاكمة في المنطقة. ويركز التوازن في المجموعة على عيّنات من الملابس الموجودة في المناطق المجاورة.
في هذه المقابلة، تعرّفنا د. المتولي عن كثب إلى هذه المبادرة منذ إطلاقها في عام 2011 إلى أهدافها التي تركّز إلهام وتثقيف المصممين: تقول سبق إطلاق مبادرة زَيّ عدة خطوات، أهمها رسالة الدكتوراه التي قدمتها بخصوص الملابس النسائية الإماراتية، تلتها عام 2011 إطلاق كتاب (سلطاني: تقاليد متجددة – بحث في أزياء دولة الإمارات العربي المتحدة خلال فترة حكم الشيخ زايد بن سلطان 1966 – 2004)، وهو كتاب تأريخي. ثم عملت عام 2014 على إطلاق سلسلة (ريميات) للأطفال والتي تناولت في بعض قصصها المصورة التراث الإماراتي ومن بينه الملابس التقليدية، وإضافة إلى كل ما سبق عملي كمصصمة أزياء وحبي لإحياء الأزياء التقليدية بهيئة متجددة، وحرصي على جمع الملابس النسائية القديمة والقيمة في آن معاً.
كل ما ذكرته جعلني أفكّر جدياً بضرورة توثيق الملابس العربية التقليدية أسوة بالتراثين المادي والمعنوي، على اعتبار أنها جانب من جوانب التراث، وعبر توثيق الملابس نستطيع معرفة عدة أمور مهمة، من بينها: تكيّف الإنسان مع بيئته، ومدى استفادته من الطبيعة المحيطة به لاستخدامها في صناعة الملابس، والابتكارات التي حققها على مستوى صناعة الأنسجة، وتطور آليات خياطة والتطريز، بالإضافة إلى تأثير الجغرافية والسياسة على صناعة الملابس.
و كما ذكرت فإن الملابس التقليدية هي جزء من تاريخ أي أمة أو شعب أو مجموعة بشرية، وبالتالي يُعد توثيق تلك الأزياء حفاظاً على وجه من أوجه ذلك التاريخ، وفرصة لإعادة إنتاجها سواء بأشكالها الأصيلة أو مع شيء من التجديد، ومن شأن هذا أن يسهم حتماً في إحياء أحد جوانب تاريخ الأجداد والآباء لإعادة صورة ما كانت عليه الحياة في الماضي. ويوجد في مدونة مبادرة زَيّ موضوعات عديدة يستطيع القارئ من خلالها التعرّف أكثر إلى أهمية حفظ الملابس التراثية وتوثيقها، بالإضافة إلى توثيق ملحقاتها من أكسسوارات وغير ذلك.
وقالت لكل عصر تجلياته التي فرضت حضورها على الملابس التقليدية، وبالتالي هناك جملة عوامل أثرت وتؤثر عليها، ولا يشمل ذلك الاقتصاد وحده، إنما أيضاً السياسة والجغرافيا والديموغرافيا، وبالتالي لا يمكنني كباحثة طرح رأي جازم لأقول إن الملابس التقليدية العربية تمتاز بكذا وكذا. لكن عموماً أستطيع القول إن الحضارات والأمم والشعوب التي سكنت المنطقة من المحيط الأطلسي وصولاً إلى سواحل بحر العرب والمحيط الهندي – وهي كثيرة - تأثرت بعضها ببعض مثلما تأثرت بالحضارات المجاورة لها، وهنا علينا أن لا نتجاهل تأثير حركة التجارة على أزياء كل المنطقة، وكذلك الاستعمار الذي تعرضت له كل إقليم ودولة على حدة.
وباختصار، يمكنني التأكيد على أن الملابس وملحقاتها في كل زمن من الأزمنة وفي مختلف دول العالم اعتمدت بالدرجة الأولى على موارد عديدة لصناعة الأنسجة ومن ثم صباغتها، وكانت لكل مرحلة ومنطقة تفصيلاتها وتطريزاتها أيضاً، وكل ما سبق بدأ يدوياً بكل تفاصيله ثم أصبح آلياً بعد دخول المكننة، وبإمكان القارئ الاطلاع على أرشيف مجموعة زَيّ الرقمي للتعرف إلى نوعية الأزياء وتفاصيلها التي كانت سائدة في عصر ما وخلال فترات زمنية معينة.
وتقول ان الأزياء النسائية بالتحديد شهدت تطورات كثيرة مقارنة بالأزياء الرجالية، لكنها حافظت على جماليتها وعلى تفرّدها من حيث الخامات والألوان والتطريز والتزيين، وكانت تلك الأزياء دائماً مساحة للتجريب من قبل الخياطين والخياطات، ومهما كان شأن المرأة في المجتمع التي سترتدي الثوب أو الرداء فإن العاملين والعاملات في مجال النسيج والخياطة والتطريز يعملون جهدهم ليجذبوا انتباهها ويجعلوها تبدو بأحلى حُلّة.
هذا ما كانت عليه الحال عموماً في معظم الدول العربية، وحتى سبعينيات القرن الماضي كنا ما نزال نرى الأمهات والجدات يحرصن على ارتداء الملابس التقليدية التي تُخاط وتُطرّز يدوياً أو آلياً، فيما انحصر اهتمام الفتيات بارتداء الأزياء الغربية الطراز، أي القمصان والتنانير والبناطيل والفساتين. لكن في النصف الأول من الثمانينيات ومع غياب جيل الجدات والأمهات، صرنا نرى ملابس هجينة، لا هي عربية ولا هي غربية، فانتشرت العباءة السوداء التي لم تكن موجودة ما قبل القرن الماضي، واختفت الألوان الجميلة، وعاد المصطلح العثماني "الحرملك والسلملك" إلى الوجود، أي الفصل تماماً بين النساء والرجال. ثم إن
الضائقة المادية التي باتت تعاني منها أغلبية مجتمعاتنا أثرت كثيراً على تغيير عاداتنا فيما يخص اللباس التقليدي، والذي هو أعلى كلفة من الملابس الحديثة. بهذا المعنى لا يمكنني القول إن الزي العربي تطور، لأننا قلما نرى زياً عربياً أصيلاً، وإن حدث ورأيناه فيكون ذلك في إطار ضيق، كالحفلات الخاصة، ونادراً في الاحتفالات الوطنية، ما عدا أهل المغرب وبعض قرى فلسطين ما يزالون يرتدون الأزياء التقليدية، وهذا أمر يُحسب لهم.
وقالت إننا لا نعيش اليوم في عالمنا العربي أبهى حالاتنا وأرقاها، فنحن اليوم مجرد شعوب مستهلكة بعد أن كنا منتجين. كان العرب في الماضي يبتكرون ويصدّرون ابتكاراتهم إلى العالم أجمع. وإذا أردت الحديث عن صناعة النسيج والملابس فقط فالأمثلة والشواهد كثيرة. لقد تميز العرب فيما مضى بصناعة ونسج الكتان والقطن والحرير والديباج والموصلي (الموسلين) والدامسكو، وحرصت كل دول العالم على اقتناء تلك المنتجات لجودتها، لكن أين نحن حالياً مما مضى.
اليوم وبسبب "العولمة" بات الإنسان من حيث المظهر ونمط الحياة نسخاً مكررة في جميع الدول، فالجينز "استعمرنا"، وأصبحنا جميعنا نرتديه، أطفالاً وشباناً وكهولاً، نساءً ورجالاً، مع أن عمره لم يتجاوز قرناً ونصف، فيما أن ملابسنا التقليدية النفيسة والجميلة إما غير متاحة بسبب ارتفاع ثمنها، أو أنها مخصصة لمناسبات محددة، ولكنها عموماً لا تستحوذ على اهتمام جيل الناشئة الذي لم يرها على الأغلب. ولعل سلسلة الحوارات الافتراضية التي نقدمها عبر مبادرة زَيّ تساعد في تقديم إجابات عن الكثير من الأسئلة التي تُطرح اليوم حول الأزياء التقليدية والحديثة، حيث نستضيف باستمرار متخصصين ومتخصصات بالأزياء وصناعتها.
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
أرسل تعليقك