يسود في العديد من المجتمعات اعتقاد راسخ بأن النساء أقل رباطة جأش من الرجال وأنّهن أقل قدرة على تحمل المهام الشاقة وأنهن أقل كفاءة في مراكز القيادة، ولذلك ما زال الرفض سيد الموقف لتولي النساء المهام القتالية ذاتها التي يتولاها الرجال في القوات المسلحة.
إلا أن الذَّود عن حِياضِ الأوطان لم يكن يوما حكرا على الرجال فصورة المرأة الثائرة والقائدة والمحاربة تحضر في العديد من الحضارات القديمة.
ويكشف التاريخ عن أدوار بطولية متعدّدة خاضتها النساء جنبا إلى جنب مع الرجال في الساحات القتالية وتقدمن في أحيان كثيرة الصفوف الأمامية للجيوش، مثل “زنوبيا” ملكة تدمر التي شنت حملات عسكرية على الإمبراطورية الرومانية وقادت جيوشها بنفسها، وحققت انتصارات كثيرة على الإمبراطور الروماني أورليانوس، وملكة العرب “ماوية” التي هزمت الجيوش الرومانية شرّ هزيمة بفضل القوة التي كانت تتمتع بها، والفرنسية جان دارك بطلة حرب المئة عام التي دارت بين الفرنسيين والإنكليز، وهناك الكثيرات غيرهن ممّن أعطين صورة مختلفة عن المرأة الضعيفة التي تحتاج لحماية الرجل.
ولعبت النساء أدوارا بطولية خلال الحروب المختلفة التي شهدتها بلدان العالم، ووجدت زوجات وصديقات وأمهات وشقيقات أنفسهن في وظائف محفوفة بمخاطر هائلة وعرضة لحوادث مميتة.
وفي الحرب العالمية الأولى قدّم الآلاف من النساء جهودا تطوعية لدعم المقاتلين، فدعمن الجنود بالمراسلات، وعملن كممرضات لعلاج الجرحى على غرار الإنكليزية فيرا بريتن التي وصفت تجربتها في مذكرات.
وقال وقتها جورج لويد الذي تولى لاحقا منصب رئاسة الوزراء في بريطانيا في أحد تصريحاته “دون النساء ليس من نصر سريع”، ليؤكد على المشاركة الحاسمة للمرأة في المجهود الحربي لجميع الدول الضالعة في الحرب.
أما النساء بالنسبة إلى المقاتلات فكنّ أقلية، وقد شوهدن خاصة على الجبهة الروسية، حيث أنشئت في ربيع 1917 “كتائب الموت النسائية” بمبادرة من ماريا بوشكاريفا المزارعة التي انخرطت في الجيش.
وكشف المؤرخ يوغين روجان، في كتابه “سقوط العثمانيين: الحرب العظمى في الشرق الأوسط” إلى اعتماد الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى على قناصة من النساء، لم تكن قوات الحلفاء البريطانية والفرنسية والروسية تتوقع أنهن إناثا لدقتهن وقدرتهن الفائقة على التصويب والقنص.
النساء القويات
وأدت النساء أثناء الحرب العالمية الثانية أدورا أكثر اتساعا مما كانت عليه في الحرب العالمية الأولى، فقد عملن بمصانع الذخيرة وفي الصناعات الحربية وفي بناء السفن وصناعة الطائرات والسيارات، وقدمن الدعم اللوجستي للجنود، وانضم الآلاف للسلك العسكري ولا سيما في الجيش الأحمر بالاتحاد السوفييتي.
وبعد الحرب العالمية الثانية اتخذت البعض من الدول قرارات بتحجيم دور مشاركة المرأة في القتال، وانحصرت أدوارهن في الأعمال الإدارية والطبية، فيما شهد النصف الثاني من القرن العشرين انضمام الآلاف من النساء للقوات المسلحة بعد أن فتح باب التطوع أمامهن.
وتُعتبر إسرائيل واحدة من بين الدول القلائل في العالم التي فرضت الخدمة العسكرية الإجبارية على المرأة أسوة بالرجل، فيما أقرّ البرلمان النرويجي عام 2014 إلزامية التجنيد العسكري على النساء.
وقامت النساء العربيات بمهمات بطولية في الحروب وأعمال المقاومة المسلّحة ضد الاستعمار وبرزن كمناضلات في تونس والمغرب ومصر والجزائر والعراق وسوريا وفلسطين، وضحت الكثيرات منهن بأرواحهن في سبيل الواجب الوطني ومن أجل رفع راية بلدانهن عاليا.
وشهدت الحرب العراقية الإيرانية دورا مهما للمرأة العراقية، وارتقت بعضهن لرتب عسكرية وصلت إلى العقيد والعميد.
وفي العقود الأخيرة أدمجت العديد من الدول العربية المرأة بمؤسساتها العسكرية، وأصبح النساء يعملن في مجالات مختلفة بالجيش، وعكست الكثيرات منهن الأضواء على تجاربهن في حمل الأسلحة والقتال على أرض المعركة.
ولفتت الإماراتية مريم المنصوري الأنظار في الشرق الأوسط وخارجه حين بزغ نجمها كقائدة لإحدى القاذفات الإماراتية التي شاركت في قصف مواقع تنظيم داعش في سوريا عام 2014.
ولكنّ ذلك لا يعني أن كلّ مكان في العالم يرحّب بانتقال المرأة من عالمها التقليدي الذي يتمتع بخصوصية كبيرة ليصبح أكثر حداثة وعمومية.
وبالرغم من أن العديد من الدول بدأت في العقود الأخيرة في توسيع الفرص المهنية المتاحة للمرأة وإعطائها أدوارا أكثر بروزا في القوات المسلحة المعاصرة، إلا أن ذلك لن يغيّر حقيقة الاختلاف النفسي والجسدي القائمة بين المرأة والرجل، والتي ما زالت تثير الجدل السياسي والديني وتفرض على النساء أدوارا ثانوية في الجيش كالخدمات الإدارية والطب والتمريض، فيما تبقى الأدوار القتالية محظورة عليهن وفي الغالب من اختصاص الرجال وحدهم.
أدوار ثانوية
وكشفت النقيبة المصرية (س. م) التي اكتفت بحرفين من اسمها -نظرا لحساسية مهنتها التي تفرض عليها الالتزام بالسرية- عن الصعوبات التي واجهتها كامرأة عندما باشرت عملها بأحد المستشفيات العسكرية بمصر.
وقالت إن التحاقها بمعهد التمريض العالي للقوات المسلحة جعل حياتها لا تشبه حياة النساء، مشيرة إلى أنها عانت الكثير من أجل الحصول على الشهادة العليا من ذلك المعهد.وأوضحت النقيبة المصرية أن طبيعة الحياة العسكرية بالمعهد حرمتها في بعض الأحيان من رؤية أهلها، إضافة إلى ما عانته من صعوبات جراء التمرينات البدنية والرياضية القاسية التي كانت تقوم بها في الصباح الباكر والمساء.
إلا أنها أكدت أن الحياة العسكرية علمتها الدقة والنظام في أدق تفاصيل حياتها، مشيرة إلى أنها وبعد ما واجهته خلال سنوات من تحديات كبيرة لم تحظ سوى برتبة عسكرية صغيرة، ولكن ذلك لم يثنها عن المثابرة من أجل الوصول إلى رتبة نقيب.
وتحول ثقافة السرية المفروضة على العاملين في الجيوش العربية دون الكشف عن التمييز الممنهج والمستمر ضد النساء والمضايقات التي يتعرضن لها من الأعضاء الذكور وخاصة أثناء التدريبات العسكرية.
كما تخيّر الكثيرات الصمت خوفا من خسارة وظائفهن في حالة عدم تصديقهن من القيادات أو في حالة وجود حلقة لا تستجيب للتحقيق في الأمر.
وعبر عالم الاجتماع جويس عن الفوارق الخفية بين الجنسين داخل المؤسسات بقولة أكثر بلاغة “النزعة العسكرية الثقافية وروح المشاركة القوية في الدول التي تتعامل بلغة السلاح لا تقلّل الفوارق بين الرجل والمرأة، بل تخفيها لأهداف حربية”.
ولا يبدو أن الحياة العسكرية رومانسية أو هيّنة لتعدّل النساء أنظارهن عليها، فالعاملون في سلك الجيش يعملون كل يوم بجد وكد ويواجهون الكثير من المخاطر التي تهدد حياتهم، وخاصة في بلدان النزاعات، ومع ذلك فالخدمة العسكرية لها بريق يجذب الكثير من الفتيات.
وأطلقت مجموعة من الشابات المصريات الناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة دعوات متكرّرة على الإنترنت يطالبن فيها سلطات بلادهن بقبول الفتيات ضمن صفوف القوات المسلحة وأجهزة الشرطة.
وتأتي مطالبتهن باشتراك المرأة في القوات المسلحة ضمن المطالب التي تنادي بالمساواة بين الجنسين ومشاركة نصفي المجتمع في بناء البلد، ولكن المناشدات لا تترجم بالضرورة إلى أفعال على أرض الواقع من قبل السلطات.
ويمثّل حصول المرأة الجزائرية على أعلى الرتب في مؤسسة الجيش عامل جذب للنساء نحو المهن العسكرية، وخاصة بعد أن فتحت مدرسة أشبال الأمة عام 2016 أبوابها أمام تلميذات الإعدادي والثانوي للتكوين فيها والتخرج منها كضابطات في الجيش، مما جعل التلميذة سهام أحمد قويدر من إعدادية عائشة باكلي بالعاصمة الجزائر تفكر في التسجيل خلال الموسم القادم بمدرسة أشبال الأمة، أملا في تحقيق طموحها في أن تصبح ضابطة في صفوف جيش بلادها.
وقالت قويدر إن فتاتين من جيرانها التحقا بالمدرسة خلال الموسم الماضي، وحملا لها انطباعات جيدة عن ظروف التدريس والتكوين بالمدرسة.
وأضافت “الحديث المتداول داخل الأسرة وفي وسائل الإعلام عن انفتاح الجيش الجزائري على المرأة الجزائرية حفّز لديّ الرغبة في الالتحاق بمدرسة أشبال الأمة”.
أحلام مشروعة
ورغم أن طموح الفتيات العربيات في الالتحاق بصفوف جيوش بلدانهن مشروعة وكفلتها لهن قوانين بلدانهن عندما أقرت مبدأ المساواة بين الجنسين في التعليم وفي العمل وفي تولّي أيّ مهام يخترنها إذا كن مؤهلات لها، فإن بعض القوى الذكورية ما زالت تنظر إلى عمل المرأة في الجيش على أنه من المحرّمات لأنه يفرض عليها الاختلاط بالرجال.
وردا على ذلك قال محمد الشحات الجندي أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر إن مشاركة المرأة في أعمال تتعلق بالدفاع عن الوطن أو الأمن أو المرافق العامة، أمر لا يمنعه الشرع، ولا يوجد دليل على حظر ذلك، بل بالعكس فالنساء في العصر الإسلامي الأول شاركن في أعمال الدفاع عن الوطن الإسلامي وهو المدينة المنورة.
وأشار إلى أن السيدة أسماء بنت أبي بكر كانت تحمل المؤن والغذاء للرسول صل الله عليه وسلم وأبيها، وذلك أثناء رحلة الهجرة في ظروف صعبة بكل المقاييس، حيث كان هناك ترصد للرسول، وتربّص لأصحابه عند الهجرة من مكة إلى المدينة.
وأشار الشحات إلى أن هناك البعض من النساء وقف خلف صفوف الرجال في معركتي بدر وأحد وغيرهما، حيث كن يساعدن الرجال في قتال الأعداء ويقمن بإغاثة الجرحى وإسعاف المصابين في الحرب.
وأوضح ألاّ فرق بين الدين والوطن كما يزعم البعض، فرسالة الإسلام لا تفرّق بين الدين والوطن في الوجود وأهمية مشاركة الرجال وكذلك النساء في خدمة الدين والوطن.
فيما يرى أستاذ علم النفس التربوي العراقي سليمان شيخو أن المرأة أكثر تسامحا وعاطفة من الرجل، إلا أن ذلك لا يعني أنها أقل عقلانية منه، فكلاهما لديه تماثل في العقل والقلب، ولكن سبب الاختلاف من وجهة نظره يكمن في الدور الذي فرضه المجتمع على الجنسين.
وأشار إلى أن التفسيرات الدينية وخاصة في المجتمعات الإسلامية كرست انعدام المساواة بين الجنسين، وأدت إلى ظاهرة التمييز بين الذكور والإناث في مجالات مختلفة بما فيها مسألة العمل في سلك الجيش.
وقال شيخو إن “المرأة في البلدان المتقدمة تستطيع الدخول في معترك الحياة العامة وفق اختيارها وقراراتها الشخصية ولكن في الدول العربية والإسلامية ما زالت العادات والتقاليد والتفسيرات الخاطئة للدين تكبّلها وتحرّم عليها الدخول في السلك العسكري وتنظر إلى مثل هذا العمل على أنه لا يتناسب مع القيم الاجتماعية السائدة، وهذا كله لأنها مجتمعات منغلقة وترفض تقبل التغيرات الاجتماعية التي أصبحت في عدة دول غربية من الأمور الطبيعية”.
وأضاف “الكثير من النساء ضرب بتلك التقاليد عرض الحائط وتمردت النساء على أنوثتهن ودخلن المجالات العسكرية وأحرزن مناصب هامة، وهذا من حقهن المشروع، فالمرأة نصف المجتمع، وهي مصنع الرجال والعلم، وأعتقد أنه لو راعى كل فرد مهما كان جنسه أو عرقه أو دينه حقوقه وواجباته من دون التعدي على حقوق غيره لعاش الناس جميعا في سلام ووئام”.
أرسل تعليقك