كانت ايرينا بوكوفا تجلس في مكتبها في مقر اليونسكو في باريس على بعد مسافة قصيرة من برج ايفل عندما جاءها مجموعة من زملائها ليسألوها ان كانت قد رأت ما فعل داعش في متحف الموصل، فلم يكن الأمر عاديا في ذلك الوقت وخصوصا السماع عن تدمير معتمد للمواقع التراثية والأثرية في منطقة الشرق الأوسط، و بصفتها المدير العام للمنظمة كان لديها في ذلك اليوم جدول مزدحم من الإجتماعات, فردت على زملائها انها ستراه في نهاية اليوم، ولكنهم اجابوها " لا لا انه امر خطير حقا, " فذهبت الى مكتب مجاور كي تجد كومبيوتر وشاهدت الفيديو الصادم لعصابة من الرجال المسلحين يتحركون داخل غرف بيضاء الجدران مليئة بالمنحوتات القديمة والنقوش الجدارية التي يبلغ عمرها ما يقرب من ثلاثة ألف سنة، مثل الثيران المجنحة ذات الرؤوس البشرية التي كانت تحرس مدخل المدن الآشورية قيل 2700 عام، وتمثال لكاهن يحمل النسر في العاصمة القديمة لأول مملكة عربية وهي الحترا، فيما الرجال ينهالون عليها بالتدمير بالرغم من علامات ممنوع اللمس.
وتعتبر بوكوفا تلك اللحظة من الأكثر ايلاما في سلسلة من الدمار الذي حصل مؤخرا في مواقع للتراث العالمي، والتي كانت هي أكثر من أي شخص أخر معنية ومسئولة عن حماتيها، وصرحت " أول الأمر لم أصدق أن هذا يحصل في الحقيقة، فكان الأمر مثل فيلم رخيص حول بلطجية يدمرون أشياء عزيزة علينا، وهذه كانت الصدمة في العجز الكامل، فانا لم أقدر على فعل أي شيء لايقافه."
ولم تستطع على الاطلاق مشاهدة كل الفيديو، ويبدو أن استهداف القطع الفنية الثقافية صفة قديمة قدم التاريخ، ولكن الموجة الحالية من تدمير المتطرفين للمعالم الأثرية بدأت مع قرار طالبان بنسف تمثال بوذا الذي يعود للقرن السادس في أفغانستان في عام 2001، وقد تسارعت الامور في هذا الصدد من بعد الربيع العربي، وفي صيف عام 2012 وفي افريقيا تحديدا استطاع مسلحون تدمير اضرحة مرها 14 قرن، ووصل الامر الى الأزمة مع سيطرة داعش على العديد من الاراضي وبالتالي أصبحت قائمة المعالم المفقودة أو التالفة أطول والتي تشمل مسجد النبي يونس الذي بنى على أنقاض مدينة نينوى القديمة في العراق والذي فجره داعش في تموز/يوليو عام 2014، وأطلال نمرود التي يبلغ عمرها 3000 عام في اذار/مارس 2015.
ولم يكن المتطرفون وحدهم هم المسؤولون عن التدمير بل أجزاء كبيرة من صنعاء في اليمن دمرت بسبب الضربات الجوية، كما أن العديد من القطع الاثرية الليبية سرقت، وتعتبر اليونسكو ستة مواقع أثرية سورية في خطر، وعشرين أخرين في خطر مؤقت, وأوضح حارس قطع الشرق الأوسطية في المتحف البريطاني في لندن جوناثان توب " نحن ربما لا نعرف نصف القطع، هناك العديد من المناطق في سورية التي لا يوجد عنها معلومات", وأوصلت موجة الهدم العام الماضي موظفي اليونسكو الى الخوف الكبير وخصوصا في اليوم الذي اختار فيه داعش تدمير الملعب الروماني في تدمر وتقول بوكوفا " كانت هذه لحظة حزينة جدا جدا، والتي لم يرها جيلي أبدا، وكانت نكسة كبيرة على الكل والتي نسعى للعمل عليها."
ويبدو أن اليونسكو لن تستطيع مجابهة داعش، وقد تأسست هذه المنظمة التابعة للأمم المتحدة في عام 1945 بهدف منع الحروب في المستقبل من التأثير على التاريخ الثقافي، وتنص وثيقة تأسيسها على " يجب أن تبنى دفاعات السلام في عقول البشر كما تتولد الحروب أيضا في عقولهم", ويعتبر مبنى الامانة العامة لها نصب تذكاري لتفاؤل ما بعد الحرب والذي أشرف على تصميمه لو كوربوزييه ووالتر غروبيوس ومارسيل بروير لإنتاج تحفة معمارية حديثة من الخرسانة التي تحتوي على أثاث من الخمسينات، وتضم أروقته أعمال فنية عظيمة مثل بيكاسو وغيره، فيما ينتصف في الحديقة تمثالي خري مور والكسندر كالدر.
وتمتلك بوكوفا عيون زرقاء حادة وتنطلق يوميا في عملها كل صباح بفتح نقاش حول مائدة مستديرة باللغتين الفرنسية والانكليزية وتخوض العديد من اللقاءات التلفزيونية وتستقبل الوفود من فرنسا والسنغال ولاتفيا وانطاكية وتصافحهم أمام الكاميرات وخريطة العالم وعلم الامم المتحدة، ويمتلئ جدول اعمالها بالاجتماعات والمؤتمرات، وفي المساء تتوجه لافتتاح معرض فني متحدثة عن جهود اليونسكو وحملة التدمير الثقافي ومحاولتها لخلافة بان كي مون كأمينة للأمم المتحدة.
ويصعب عليها ان تجعل من قضية التراث أمرا مهما في سياق الحرب السورية التي أودت بحياة 270 ألف شخص، واتهمت مرارا انها بعيدة عن الواقع وبأنها لا تهتم بحياة الناس ولا يهمها سوى الطوب والحجارة والمباني، وبطبيعة الحال فان الاهتمام بالآثار بالنسبة لها لا يعني انها لا تهتم بالناس.
واستطاعت بوكوفا أن تحقق انجاز في حملتها لحماية الاثار عندما زارت شمال العراق في عام 2014 واجتمعت مع الاقلية الإيزيدية التي تعرضت للاضطهاد على يد داعش، واستخدمت في ذلك الوقت مصطلح التطهير الثقافي لوصف ما حدث، وتتساءل اليوم " ما هي الإيزيدية اذا اقتلعت من المكان الذي عاشوا فيه منذ قرون، عندما تدمر معابدهم ويسلب ما يملكون ويطردون من بلدهم فهذا أكثر من تطهير عرقي لانهم يحرمون من هوياتهم، فهم يطهرون ثقافيا."
وكان لمصطلح التطهير الثقافي صداه في الحروب اليوغسلافية، بسبب اتصاله مع الأزمة الانسانية، وهو خطوة مبكرة لكسب الرأي العام الذي يطالب بحماية الثقافة بما في ذلك الموسيقى والفنون", وتضيف " أعتقد انه من المهم وكشرط مسبق لأي شيء اخر نقوم له، لحسن الحظ ولأننا رأينا الكثير من تدمير التراث والمعاناة الانسانية فان الكثيرون يدركون الرابط بين الاثنين."
واستطاعت النجاح في ادراج ثلاث فقرات في قرار الامم المتحدة 2199 الذي صدر في شباط/فبراير العام الماضي والذي يهدف الى قطع عائدات النفط عن المتطرفين واستطاعت أن تدرج تجارة الاثار أيضا، وتقول " كان التحدي يكمن في الاعتراف بأهمية التراث والحاجة لحمايته، ووقعت المسئولية على عاتقنا وعلى عاتق الانتربول لإنشاء هذه المنصة لمحاربة الاتجار بالآثار والبشر", وكان هذا نوع من الانقلاب فالأول مرة في التاريخ يجمع قرار للأمم المتحدة بين الثقافة والأم العالمي، وتأخذ اليوم ستة وثلاثون بلدا خطوات للقضاء على الاتجار بالاثار، ولكن منع الضرر الذي لحق بالمواقع نفسه سيكون صعب، فالمنظمة ليست لديها قوة ولا سيطرة لاستخدمها، على الرغم من أن ايطاليا طرحت مؤخرا فكرة نشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لحماية الثقافة، الا أن خبراء من اليونيسكو نفسها يقولون انه من الصعب تنفيذ هذا الأمر، فداعش أعدم حراس في نينوى الذي حالوا الدفاع عن المعالم الأثرية.
ودمر داعش العام الماضي اجزاء من الاثار في مدينة تدمر بما في ذلك معبد بل الذي وصفه المخرج السوري مأمون عبد الكريم بأنه أجمل رموز سوريا وقطعوا رأس عالم الأثار خالد الأسعد الذي كان قد كرس حياته لتدمر وعلقوا جثته على اشارة المرور مبررين دائما بانهم يحطمون الأثار, ويتابع توب " اذا كانا لا نستطيع الوقوف امامهم ولا يمكننا حمايتها عسكريا فماذا يجب ان فعل. اعتقد انه يجب علينا التخلص من هذا الجحيم قبل أن يصل الينا."
واستعاد النظام السوري تدمر مؤخرا وسافر اليها اثنين من الخبراء الثقافيين الكبار ليوكوفا، وقد استاءت من التغطية الاعلامية التي قللت من الأضرار، والتي تقول ان المدينة فقدت بين 20 أو 30%، ولكنها تعتبر أن تدمير تمثال واحد يعتبر خسارة كبيرة.
وقال كل من عالم الاثار الجزائري منير بوشناقي ورئيس مركز التراث العالمي متشيلد روزلر بزيارتين منفصلتين في سيارات مصفحة وقافلة تحرسها الطائرات الروسية ولكنهما لم يتمكنا من الوصول الى معظم الاثار بسبب الألغام، وزارت روزلر الاماكن التي شنق عليها داعش 25 شخصا على الاعمدة الأثرية وما تزال الحبال موجودة, وحاول فريق من الحكومة السورية التحرك بسرعة قبل ساعات من السيطرة على المدينة ونقل ما يستطيعون من الاثار ولكن كلها كانت قطع صغيرة، وأكدت روزلر " القطع الصغيرة كلها بخير، ولكن الدقائق الاخيرة قبل داعش شهدت مقتل شخصين حاولا انقاذ المزيد من المقطع."
وتعتقد بوكوفا ان الأشخاص الذين يسعون لتدمير حرفة تعود لأكثر من 300 سنة يفكرون في أن يكونوا أبطال ولكنهم في نظرها مجرد مجرمين ويجب معاملتهم كمجرمين، وتعمل لتحقيق هذه الغاية مع محكمة الجنايات الدولية لوصف الهجوم المتعمد على المعالم الأثرية بجريمة جرب بموجب المعاهدة التأسيسية للمحكمة وميثاق روما، وستبدأ أول محاكمة لتدمير ثقافي ضد قائد شرطة تمبكتو أحمد فقيه المهدي في لاهاي في وقت لاحق من هذا العام، وتشجع بوكوفا المدعى العام على اتخاذ قرارات متشددة، وتريد من هذا الحكم أن يكون رسالة قوية وواضحة أن من يسعى الى هذا الدمار لن يفلت من العقاب على هذه الجرائم.
ولم يكن السباق الى منصب الأمين العام للأمم المتحدة عاما، على الرغم من أن القرار سيتخذ هذا الصيف وراء الأبواب المغلقة في مجلس الامن، وتجري حملة انتخابية كجزء من محاولة أن تكون العلمية أكثر شفافية، وسيكون اختيار المرشح على الاغلب في مفاضلة بين واشنطن وموسكو، وستكون بوكوفا اذا تم انتخابها أول امرأة وأول أوروبية شرقية تصل لرئاسة الامم المتحدة, وتشير " اعتقد ان هناك دافع كبير لإيجاد امرأة وبالتالي أعتقد انها ستكون امرأة سواء وستكون اوروبا الشرقية مكان متوسط، فبلغاريا على وجه الخصوص بلد هامشي بين القوى العظمى."
وقضت بوكوفا طفولتها على الهامش في بلغاريا فولدت في صوفيا في عام 1952 وجاءت عائلة والدتها من منطقة تقع في الجنوب الغربي والتي تتسم بالفقر، وهذا الجزء من بلغاريا كان تابع للإمبراطورية العثمانية وتأثرت بطريق الثقافية بين العالمين الاسلامي والمسيحي وكانت جدتها امية وغادرت والدتها المدرسة في المرحلة الابتدائية وعادت بعد انجاب الاطفال لتصبح طبيبة نفسية.
وحصلت بوكوفا نفسها على تعليم جيد، فوالدها جورجي باكوف كان دقيق وصار ويحب التعليم، وكانت والدتها لديها تأثير كبير عليها فدعمتها، وخلال الحرب انضم والديها الى المقاومة الشيوعية ضد النازيين وبعدها أصبح والدها المحرر العام للقوات المسلحة في الصحيفة الرسمية للحزب ولكنه اختلف معهم في عام 1976 واعتبر منشق وجرد من جميع مناصبه الرسمية، ولكنها كانت في ذلك الوقت تدريب في معهد النخبة للشئون الدولية في موسكو والذي يوصف بهارفرد روما، وتعيش في موسكو ولديها طفلان من الصحفي وبومير كولاروف، ولكنها انفصلت عنه وتزوجت من المصرفي كالين متريف.
وكان عام 1989 سنة تغيير بالنسبة لها فهو العام الذي انتقت فيه الى الغرب كي تدرس في جامعة ميريلاند في كلية الشؤون العامة حيث التقت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت وغيرها، وعادت بعد ذلك للعمل على اصلاح بلغاريا مع حكومة بيتار ملادينوف، ولكنها فضلت الجهود الدبلوماسية وليست السياسية، وأصبحت في عام 2005 سفيرة في فرنسا، وفي عام 2009 انتخبت كمديرة عامة لليونسكو.
وتعرضت المنظمة خلال خدمتها لما وصفته أزمة كبيرة ففي عام 2011 صوت الدول الاعضاء بأغلبية ساحقة لجعل فلسطين عضو كامل في اليونسكو ضد رغبة أميركا واسرائيل ولم يكن لها قرار في هذا الشأن ولكنه ادى الى قطع التمويل الاميركي عن الهيئات التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، بالتالي قلت ميزانية المنظمة بين عشية وضحاها وفقدت 4% من موظفيها، واضطرات الدبلوماسية السابقة إلى بدء جولة كبيرة من خفض التكاليف، وما تزال هناك الكثير من المحادثات لإعادة التمويل.
ويرى مؤيدوها أنها جديرة بمنصب الامين العام مستشهدين بقدرتها على التعامل مع الأزمة، ويصفوها بالديناميكية عندما يتعلق الأمر بحل العقد، ويشيدون بعملها في اليونسكو، ويشجعون وصول مرأة خصوصا من الاتحاد السوفيتي السابق الى هذا المنصب، واتهمتها بعض الصحف بالاحتيال والعمل على تضارب المصالح وهو ما نفته تماما، وترى أن وظيفة الامين العام ليس مجرد وظيفة صورية بل عليه أن يحاول ايجاد حلول، وتعتقد أن بعض مسؤولي الامم المتحدة يجب أن يتحدثوا مع المتطرفين الاسلاميين، وعلى الأمين العام الجديد ان يجرى مباحثات مع بوتن في وجهة نظرها ومع رئيس الوزراء البريطاني ومع الرئيس الأميركي، وبدون هذا فتتساءل ماذا سيكون منصب الامين العام, ويعتقد البعض ان هذا العام سيشهد أول رئيسة للولايات المتحدة الاميركية وربما اول رئيسة للأمم المتحدة على حد سواء، وبالنسبة للكثيرين ممن يناضلون للمساواة بين الجنسين فستكون هذه لحظة رائعة.
أرسل تعليقك