دمشق - سانا
تقترن قصائد الشاعرة ناهدة عقل في ديوانها "ليل البتول" باليومي المشبع برائحة الذكرى.. بالقسوة الشفيفة التي تصوغها كرديف للألم والحب والحزن والفقد.. ما تكتبه عقل يحيلنا إلى نضوج استثنائي في الصورة الشعرية وفي تسخير الحياة لتلوين تلك الصور بحيث تأتي القصيدة كشاهد حي على الوجدان ودون أي مواربة في تسليط الضوء على الجرح الذاتي والجمعي في الوقت ذاته.
تعتقد الشاعرة عقل أن الشعر حيلة من زاوية ما وتقول في لقاء مع سانا.. الفن والأدب كله وسيلة للتحايل على الألم البشري.. لكن هذا بالطبع لا يقلل من أهميتهما بشيء كما لا يمنحهما وظيفة التطهير ..قد يكون لهما مثل هذا الأثر على قارئ نصك وعليك حين تقرأ نص سواك، أما وأنت تكتب فلا مجال للحيلة هنا.. تكتب لأنك بحاجة لأن تقول ألمك إذا ما وصل صوته عاليا في داخلك وبات يهدد عقلك قد يسمي البعض هذه الحالة تحول الشعور إلى فكرة لكن هذا الكلام ليس دقيقا تماما.
"إرث الألم" من أكثر قصائد "ليل البتول" التي تتوضح فيها رؤية ناهدة الشعرية.. إذ إنها تمسك زمام اللغة وتقودها نحو مفازات جديدة تتخلق من خلال قدرة عالية على التورية والاستعارة تقول في إرث ألمها مخاطبة أمها..
ها أنا لا أفعل إلا ما تفعلين.. أطارد يومي بكنس غبار الأحلام.. أنظف جسدي من كل لوثة حبر.. أهيئ كل عدة الحياة.. ثم أعتذر عن الحياة.. بت كما تشائين.. بائسة وراضية.. ممتنة لنعم لا أرغب.. ودعوات آمل ألا أسمع.. بت حاضرة جدية على الدوام.. كاذبة عادية على الدوام.. بت كما ترغبين.. صالحة لثناء الجميع.. بت أنت.
وعند سؤالها عن هل ثمة لغة تتكرر عبر الأجيال الشعرية المختلفة ومن أين تأتي خصوصية كل شاعر توضح عقل.. الشعر لغة متفردة تنهل من اللغة وهو المكون الاجتماعي والطبيعي الأعمق لكل لغة لكنه ليس هي بحال من الأحوال.. هذا ما يعرفه كل شاعر بالممارسة ويتغامز به شعراء الأمس واليوم وإن كانوا ينتمون للغات وحضارات مختلفة تماما يمكن القول بأن ثمة لغة خاصة تعيد خلق ذاتها في كل جيل وفق الآلية ذاتها من جهة.. وعلى يد كل شاعر من بين شعراء الجيل الواحد من جهة ثانية وهنا مكمن الخصوصية.
"أيها الشاعر.. يسمونك العاطل عن العمل والأمل.. يسمونك..يسمونك.. يسممونك.. وأنت وحدك نوح يكدح ليل نهار.. لرفعهم من الغرق" إذا كان الشاعر منقذا فمن هو منقذ الشاعر تجيب ناهدة.. لعل فكرة المخلص ذاتها أتت من واقع أنه لم يكن يوما ثمة مخلص ثم إنها فكرة الكسالى والمتدينين.. لعل الخلاص يكمن في المعرفة العميقة للنفس وهي وظيفة كل إنسان لا الشاعر وحده.. أعتقد أن الانسان مخلص نفسه بالدرجة الأولى لكن خلاصه لا يتأتى بغير الآخر.. قد يكون الآخر كتابا من تلك الكتب التي أودع فيها أصحابها الكثير من روحهم وفكرهم.. لكن أكثر ما تشتهيه روح الإنسان هو روح إنسان حي تحبه.. وفيما يتعلق بالشاعر فحاجته أكبر وبلوغها صعب إذ يلزمه إنسان بحجمه قلبا وفكرا.. لا عزاء للشاعر ولا معين له في وحدته بغير هذا.
تقول عقل.. للشعر تحديدا وظيفة وقيمة روحية عظمى.. لا بكتابته وحسب بل بممارسته على مستوى الحياة الواقعية.. من غير الشعر حياة الإنسان حياة جثة كما يقول الشاعر نزيه أبو عفش.
"لا جدوى لتمارين النسيان"، "مليئة قصائدي بالماضي"، "وخز الذكرى السام" وفق هذا المنطق تنطلق الشاعرة ناهدة نحو توثيق الحياة بالشعر وفق لغة خاصة تهتم بالوجدان وما يصطفيه القلب والذاكرة والروح من أجل المجاهرة بتركاته عن ذلك تقول.. الشعر توثيق بصورة من الصور.. توثيق لما لا يوثق لا قولا ولا رسما ولا حتى بلغة الموسيقا.. هو يستعين بكل طرق التوصيل العادية والفنية للقبض على حالات شعورية عميقة شديدة الفردية وجمعية في الوقت ذاته.. أما فيما يخص الماضي فهذا شأن زمن الشعر ثمة مسافة بين عيش الحالة وتوثيقها بالشعر إن جاز التعبير.
وعن خصوصية الوحدة في عرف شاعرة ستكون وحدها في غابة نفسها -كما تبوح- وهي القائلة "لن أطلب.. وآمل -مهما اشتد بي الضعف- ألا أجاب.. هكذا صرت وحدي تماما.. تدفئني شمس للجميع.. ويجمدني شتائي وحدي" تبين عقل.. تعنيني الوحدة بمعناها الواقعي وحسب.. أن تعيش وحيدا لفترة طويلة.. لا أكتب إلا ما سبق وعشته واختبرته بيدي وقلبي ولساني.. بل وأمعنت في معرفته أحيانا إلى حد يقارب العمى.. الصدق ليس ميزة مضافة للشعرية بل أقل ما تتطلبه من أدوات.
الشعر في عرف ناهدة هو نكء للجرح أكثر.. وإمعان في الحلم أكثر.. دروس مكثفة لئلا تنسى الروح.. قيدها المر الأول..ولذا تأتي قصيدتها كمجابهة للنفس بالدرجة الأولى وحالة تحد لها فهي مونولوج داخلي يسبر الانفعالات وانعكاساتها ويتنبأ بسيرورة الألم الدائرية تقول.. أمامك ورقة بيضاء وعليك أن تتنازل طواعية عن كل أسلحة البشر من مراوغة وكذب وخجل وتعصب..الخ لتنال الحق في الخط على هذه الورقة.. وأي حق.. الحق بأن تدلي باعترافاتك على الملأ.. أن تعري نفسك على الملأ.. المضي للكتابة مضي بكامل الثقة والصبر إلى الجلجلة .. هي حالة صلب متكررة كما يقول الشاعر جوزيف حرب.
يذكر أن الشاعرة ناهدة عقل خريجة قسم الإعلام في جامعة دمشق ومهتمة بالشعر وبالدراسات الشعرية أنهت مؤخرا دراسة عن الصورة الشعرية في شعر جوزيف حرب وبدأت بدراسة لأشعار نزيه أبو عفش فضلا عن أنها تملك مجموعة شعرية قيد الطبع وهي تعمل الآن كأمينة تحرير مجلة أسامة.
أرسل تعليقك