يُعدّ المتحف البغدادي من المباني القديمة في بغداد؛ حيث يعود تاريخ إنشائه إلى العام 1869 في العهد العثماني، ويضمّ المعالم الحياتية و الفلكلورية الشعبية لسُكّان بغداد الأوائل، وافتتح مطلع العام 1970م في موقعه الحالي على ضفاف نهر دجلة قرب المدرسة المستنصرية.
ويوثق المتحف البغدادي فترة زمنية من تاريخ بغداد وينقل تفاصيل دقيقة عن حياة البغداديين ويلقي الضوء على التراث ونمط الحياة التقليدية لبغداد القديمة، ويستعيد بساطة الحياة وتماسكها وثرائها الاجتماعي من خلال مشاهد واقعية تجسد الشكل والحركة والألوان، أبدعها فنانون عراقيون صنعوا تماثيل الشخصيات بلغة ذات صلة بالموروث الشعبي والتراثي لبغداد.
وفي زيارة إلى المتحف البغدادي، التابع لقسم الشؤون السياحية في أمانة بغداد، فهناك ذاكرة الحضارة البغدادية القديمة الأصيلة التي رسمت ونحتت بأنامل موهوبين تماثيل بأحجام وأشكال قريبة من الواقعية، وتعطي فكرة ونظرة على الشخصيات القديمة بملابسها البغدادية المعروفة آنذاك، والتي تمثّلت بالصاية والخاجية والعباءة والدشداشة والشماخ المنفرد بطريقة لفه لدى البغداديين، فضلاً عن زي الأفندي المتمثل بالقاط والسدارة "القبعة"، وحسب المشاهد التي وزعت بين المقهى البغدادي الذي ضمّ معظم شرائح المجتمع وصولاً إلى مشاهد العرضحالجي والعامل البسيط والحداد والمصور وأبو الكباب والنداف، فضلاً عن الجالغي البغدادي والعاب الزور خانة.
وهناك السوق البغدادي الذي يضمّ الحلاق والكصاب وصاحب المكوى وأم المهافيف والنداف والصائغ والحفافة وعدد من شخصيات بغداد المعروفة، إضافة إلى حمّام السوق ومشهد زفة العرس و صوم زكريا والكثير من المشاهد التي نسجت بطرق أكاديمية فنية عالية تأخذ المتلقي إلى عالم مليء بالحكايات والمواقف والأمكنة البغدادية الأصيلة.
وعن تاريخ المتحف ونشأته، التقى " العرب اليوم " مدير قسم الشؤون السياحية باسم محمد العنزي، والذي أكد: "يعود انشاء المتحف البغدادي إلى فكرة لمعت في ذهن "مدحت الحاج سري" مدير أمانة بغداد بعد رحلته إلى إيران، التي تضمنت زيارة المتحف الإيراني للعادات والتقاليد لتتولد رغبة في إنشاء متحف مماثل يؤرخ العادات والتقاليد البغدادية، لاسيما وأنَّ بغداد كانت على أعتاب قرن سينتهي وويوثق كل ماغاب عبر السنين الماضية من 1800 إلى بداية نشأة الدولة العراقية وأنَّ الكثير من المهن بدأت في الاندثار وذهبت أدارج الرياح، بعدها أقدمت أمانة بغداد على احتضان الفكرة للحفاظ على موروث الآباء والأجداد لتزدهر ببريق بغداد الآخاذ، فافتتح المتحف العام 1970 بحضور رئيس الجمهورية آنذاك أحمد حسن البكر ولاقى إقبال واستحسان مختلف طبقات وشرائح المجتمع العراقي".
ويوضح العنزي أنَّ المتحف بدأ بـ44 مشهدًا ثم توالت الأحداث ومرت السنون ليصل الآن إلى 91 مشهدًا ضمّ بين دفاته نحو 320 تمثالاً فضلاً عن الإكسسوارات والمستلزمات، عمل عليها الكثيرون من الفنانين العراقيين، وكان الفنان فخري الزبيدي الذي تمتع بذوق فني سليم عالي المستوى دورًا بارزًا فيها، لاسيما افتتاح سوق بغداد الذي أضاف نكهة شعبية مميزة للمتحف العام 1989 فضلاً عن العديد من المساهمات للمجتمع في تقديم وإهداء الكثير من مقتنيات المتحف والصور واللوحات الزيتية الرائعة لرواد الفنانين العراقيين.
ويحتوي المتحف على مكتبة ضمّت في طياتها أوثق المراجع والمصادر عن بغداد مدينة السلام، فضلاً عن الحكايات والعادات لسُكّان بغداد لتكون هدفًا للمطالعة المجانية.
وأكد العنزي على الاستمرار في توثيق الكثير من مشاهد الحياة السياسية والاجتماعية والمهن والحرف التي انقرضت كصندوق الولايات ومراقب البلدية والديوخانة والكثير.
وبيّن العنزي أنَّ المتحف يحتوي على خمس ورش هي "ورشة النحت، و رشة الرسم، ورشة النجارة، ورشة الخياطة، ورشة الكهرباء"، وتتمثل ورشة النحت على صالة عمليات التجميل ومصنع التماثيل التي تصنع بدقة عالية، تضم أربع نحاتين شباب؛ وهم: ستار جواد وأحمد حميد وعلي حلو و جواد كاظم، الذين يعملون لصيانة التماثيل واستبدال الجبس بالشمع والسيلكون بطريقة تحافظ على أبعاد شخصية التماثيل وإضافة بعدًا واقعيًا مؤثرًا على المتلقي.
وبعد انتهاء الحديث مع مدير الشؤون السياحية تجول " العرب اليوم " في المتحف وشاهد بعض الأمكنة والحِرف القديمة ومنها: الديوخانة وهي مكان في البيت البغدادي يجتمع فيه صاحب البيت بأصدقائه؛ حيث تنظّم المجالس يوميًا من المغرب إلى ما بعد صلاة العشاء أو في يوم الجمعة أو في يوم معين وكان يجتمع فيه أدباء بغداد وشعراؤها وقضاتها وتجارها وزعماؤها وغيرهم.
وكانت الديوخانة مجلسًا أو ندوة أو محفلاً أو مدرسة عالية يتخرج فيها العالم والأديب، وهي نسخة من الظاهرة التي برزت في العصر العباسي الأول ماثلة في مجالس العلماء والأدباء، وكانت هذه المجالس ثمرة الحلقات الأدبية التي تنظّم في المساجد، وأول ديوخانة ظهرت في زمن الخليفة أبي العباس السفاح التي جعلها مكانًا للندوات الأدبية وكانت الندوات تنظّم بإشراف أحد الأدباء ويطلق عليه "نقيب المجلس".
أما أبو الجقجقدر فهو بائع جوال اشتهر أمثاله في عهد الخلافة العباسية في بغداد باسم الطوافين، وكانو يؤلفون عدد عظيمًا من أصحاب الحِرف والمهن في كثير من محلات بغداد، والجقجقدر نوع من العنبر ورد "أحب الحلوى لدى أطفال بغداد" بألوان متفاوتة موزعة في أوعية معدنية يجمعها جنبر مستدير من الخشب، ويستهوي أبو الجقجقدر في ندائه للأطفال "جقجقدر ..يامعجون".
واحتوى المتحف أيضًا على شخصيات وحِرف أخرى؛ كأم الباقلاء وأبي الفرارات والبلم والبلام التتنجي وهو بائع التتن والسكائر، جراخ الخشب وهو النجار، الجلج او الكلك وهي من أشهر وسائل النقل البحرية في العراق آنذاك، الحايج وهو الذي يحيك، وجراخ السكاكين، الملا والصبيان وهو المعلم الذي يعلم الأطفال قبل انتشار المدارس، مبيض القدور وهي مهنة مختصّة بتبيض الأواني والقدور، أم المهافيف، زفة العريس، مجلد الكتب، الغزالة وهي مهنة تغزل فيها النساء الصوف، والصفار وهي صناعة النحاس، والمجاري وهي كل من يأجر دوابه للمسافرين، والنداف، والحفافة، والسقاء، والجالغي البغدادي؛ وهي حفلة موسيقية تعتمد على الصوت الغنائي، و الفخار وهي مهنة صناعة الفخار، الزورخانة وهي من النوادي الرياضية الشعبية القديمة تضمّ عدة ألعاب كالمصارعة وتمارين القفز وغيرها، الكهوة البغدادية أو المقهى البغدادي، والمدلكجي، أبو الربابة، وصوم زكريا وهي مناسبة شعبية لاتزال تحتل مكانًا بارزًا في المجتمع البغدادي، والخبازة، وخياط الفرفوري وهي مهنة خياطة الأواني الفخارية والزجاجية والخزفية، والختان، والسراج وهي صناعة شعبية تصنع السروج وتباع لأصحاب الخيل، والحلاق، والشيخ حسون بين الطب والسحر؛ وهي ظاهرة سادت في زمن الانحطاط الفكري؛ حيث يُقدّم شيخ مشعوذ الأدعية والطلاسم بدل الوصفات الطبية لمكافحة الأمراض، وليلة الدخلة، الحمال وصباغ الأحذية وجماع القطوف، وأبو المعلاك، والحداد، وصياد السمك، ومولد النبي، ومراقب البلدية.
وكان لـ"العرب اليوم" وقفة سريعة مع الماكيير و الفنان التشكيلي بهاء عبدالحسين المسؤول عن شعر التماثيل، فتحدث عن طبيعة عمله من خلال متابعة وصيانة وتغير شعر التماثيل التي بدا التهالك على بعض القديم منها مستخدمين الشعر الطبيعي وشعر فرش الحلاقة؛ حيث يغرس الشعر ثم نعمل على تزيينه وترتيبه حسب أبعاد الشخصية التي تحتم أيضًا مدة إنجاز شعر التمثال التي تترواح بين ساعتين إلى يومين، حسب شخصية التمثال.
ويوثق المتحف البغدادي فترة زمنية من تاريخ بغداد وينقل تفاصيل دقيقة عن حياة البغداديين بكل تفاصيلها ويلقي الضوء على تراث عظيم وفولكلور رائع و نمط الحياة التقليدية لبغداد القديمة، ويستعيد بساطة الحياة وتماسكها وثراءها الاجتماعي من خلال مشاهد واقعية تجسّد الشكل والحركة والألوان أبدعها فنانون عراقيون صنعوا تماثيل الشخصيات بلغة ذات صلة بالموروث الشعبي والتراثي لبغداد.
أرسل تعليقك