رأس الخيمة ـ العرب اليوم
سؤالان، على قدر أهميتهما، وعلى كثرة ما كتب حولهما، لا يزالان يطرحان في كل مناسبة يتصدى فيها الشعراء لقضايا حقيقية... ليس الشعراء وحدهم بالطبع، المثقف هو المعنيّ، لكن الفئة المعلنة هذه المرة هي الشعراء، فهم الذين تصدوا لإصدار بيان مختلف بحق، نادر، من طراز لا يقدر عليه إلا شعراء خبروا ماء الشعر ومادته الحية، وعرفوا أن الشعر ليس حروفاً تكتب بمجانية، ولا عبارات تصف بشكل اعتباطي وكيفما اتفق، بل حرب حقيقية تدور رحاها بين عشاق الحياة، وتجار الموت والحروب... كيف، لنقرأ بيان المهرجان العالمي للشعر في ميدلين بكولومبيا، فعنده الخبر اليقين حول ما ينبغي للشعر أن يجترح، وكيف تكون البيانات الشعرية، مبنى ومعنى، ووجهة.
«من أجل ثورة شعرية عالمية».. بهذا العنوان / الشعار الغني عن الشروحات، صدر البيان الشعري العالمي الذي اختتم به مهرجان الشعر العالمي في مدينة ميدلين بكولومبيا، ليعلن الشعراء من خلاله مواقف متقدمة من قضايا العالم المفصلية.
في الشعار الذي يرفعه البيان نحن أمام دعوة لإعادة الشعر إلى دوره وفاعليته، فالشعر بالفعل يحتاج إلى ثورة، ثورة حقيقية تخرجه من الغيبوبة التي دخل فيها منذ صارت هموم الشعراء ذاتية، وأغرقوا في كتابات شخصية واستقالوا من قضايا العالم المهمة، كأنهم في إجازة طويلة الأمد ويحتاجون إلى هزّة شعرية من هذا العيار لتعيدهم إلى ما يعانيه الكوكب من أزمات، تلتهم جسده قطعة بعد قطعة.. هل نعدّ أزماتنا الكونية التي لا تبدأ بالحروب ولا تنتهي عند الموت جوعاً.. سنترك للبيان نفسه هذه المهمة.
في المضمون نحن أمام بيان نادر، يعلي من شأن الروح الإنسانية والجمال البشري الذي يجري اغتياله كل يوم تحت دعاوى عديدة... ينتصر للإنساني فينا، الذي تنطحن عظامه كل لحظة في عذابات تتناسل على نحو مرعب، بل مريع. البشرية في اختبار حقيقي، وهي لا تئنّ بل تنزف.. بل هي مصابة بنقص مناعة إنساني أو كأن منسوب الإنسانية جفّ في عروقنا... وها هي إدارة المهرجان العالمي للشعر بميدلين في كولومبيا، تعلن أنها مهتمة، بهذه القضايا.. معنية بما يجري في الكون.. تضع يدها على جرح الحضارة المعاصرة، تقرأ إخفاقاتها وتقرحاتها، وترفع صوت الشعر عالياً ليعلي من شأن المحبة والتسامح وتقبل الآخر وليرفض كل أشكال الهيمنة الاقتصادية والفكرية على الروح الإنسانية ويطلقها في الأعالي كما ينبغي لها أن تكون...
هكذا، بهذه الروح العالية، والمبصرة، يقف الشعر ضد كل أوجاع البشرية في محاولة لتصويب المسار، وإعادة البشر إلى حضارة أكثر إنسانية، وعالم أكثر محبة وسلاماً..
لقد فقدت البشرية صوابها الحضاري والإنساني.. وها هم الشعراء يحاولون بكل ما في روحهم من شعر، أن يرسموا لها مستقبلاً أفضل... ربما يقول قائل: هذه قضايا شعاراتية، كبيرة، تدبج بها البيانات لكن الشعراء أقل من أن يغيروا شيئاً.. ولربما كان في هذا بعض الصحة، لكن الشعر، الطاقة الروحية المتصلة بالروح البشري، قادر على أن يكون - على الأقل - في جانب الإنسان.
ربما لا يكون الشعر قادراً على تغيير العالم بشكل مباشر، وآني... لكنه قادر على تغيير الداخل الإنساني، على إنارة عتمتنا، وإطلاق بصيرتنا... ومن ثمّ الانطلاق في الحياة بفعل مسؤول، وعادل.
هذا البيان ليس فقط دعوة لعدالة وكرامة وحرية الإنسان.. بل صياغة لجملته العصبية وتصحيح لبوصلتها لكي تكون مع الإنسان... وللإنسان.
أما عن الشعراء ودورهم... فها هي ثلة منهم تحاول أن ترتقي في طرحها الفكري، وبياناتها، إلى أفق مختلف.. أفق إنساني وعالمي يتجاوز الجغرافيا والإثنيات والأعراق والحزبيات والجِهَويات وكل ما يعطل كون الإنسان... إنساناً. هذا بيان يجرح الغيبوبة.
أرسل تعليقك