ودّع لبنان، والجنوب، العلامة السيد هاني فحص، إلى مثواه الأخير في بلدته جبشيت، في مأتم مهيب، وبمشاركة رسميّة فلسطينية لافتة، بعدما نقل جثمان العلامة، صباح الجمعة، من بيروت في موكب سيار، حيث سجي في منزله، لإلقاء النظرة الأخيرة عليه.
ورحل العلامة السيد هاني فحص، في لحظة صعبة ودقيقة، حيث كان من أصحاب الأفكار النيّرة علميًا ودينيًا، وثقافة وحوارًا، والاستماع إلى وجهة نظر الطرف الآخر، التي نفتقد إليها كثيرًا في أيامنا الحالكة، حيث الانقسام يتعزّز بين أبناء البلد الواحد، والتشرذم يضرب العالم العربي والإسلامي، مع بروز حالات شاذّة، لا تمتُّ إلى الإسلام والعروبة بصلة.
يغيب العلامة السيد، المنتسب إلى جدّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الذي ناضل في المحافل والمراكز التي شغلها أو تبوّأها كافة، معطيًا مثالًا لرجل الدين، في معالجة قضايا أهله وناسه وأُمّته.
وحمل النعش، الذي لف بالعلمين اللبناني والفلسطيني، على الأكف، وتقدمه حملة الأكاليل، ومنها أكاليل باسم رئيس مجلس النواب نبيه بري، والرئيس سعد الحريري، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وشخصيات، إضافة إلى الأعلام اللبنانية والفلسطينية وحركة "فتح".
ونعت رابطة "قنوبين" للرسالة والتراث السيد هاني فحص، في بيان، مبينة أنّه "مرة جديدة تتباهى قنوبين بأحزانها السعيدة، لعبور أنقيائها إلى بوابة الأب السماوي، ومحبوب البوابة المقدسة اليوم، العلامة الهانئ في زمانه ومكانه الأبدي الشيخ هاني فحص. جميل أن تكون عارفَا هاني فحص، والأجمل حقًا أن تكون عارفه في قنوبين. هناك تتجلى الحقائق الثابتة الباقية، ويغيب تهافت البشر على أوهامهم والسراب، ويبقى تهافت وحيد هو على التأمل في وجه الله، ومحبة الضعيف، وتبني قضايا الحق والعدالة والسلام".
وأضافت "قبل أن تعرف الشيخ الهانئ اليوم في زمانه ومكانه الأبديين، هو كان يعرف قنوبين بقلبه من غير أن يراها بأم العين. وكان حاملها بالقلب والوجدان والخطاب والمسلك، إلى أن بات حمالها أكثر من سور جبينه بغبارها والبخور، ومذ حملت قدماه من ترابها الغالي. قبل أن يجول هاني فحص في برية قنوبين كان يعرف أنها حاضنة المؤمنين من كل الأديان والطوائف والمذاهب، وحين جال فيها جولة الروح والجسد، وكشف زوادتها المعدة من رابطة قنوبين للرسالة والتراث، كتبًا وأفلامًا وأوراقًا تستجلب تاريخ البهاء والصفاء، أدرك أكثر أنها باحتضانها المؤمنين كافة هي الأرض التي تشدنا إلى مثالها في ماضيها، وتقودنا إلى مداواة الحاضر المأزوم بذاك المثال البهي الماضي".
وتابعت "كان يعرف قنوبين ويبشر بها، بروحانية فريدة هي هوية نادرة في الدنيا، هوية تحصلت في المغاور والمحابس والصخر المطحون لإطعام الفقراء وتمجيد الله، وحين رأى المحابس والمغاور واطلع على تسمياتها في الجزء الأول من ثلاثية أنيقة بالجهد المضني الدامي عنها، أدرك أكثر أنها حاضنة المؤمنين، كل المؤمنين حقًا. وأدرك وسر كثيرًا وفرح بثبات تلك النظرية التي تقول أنّ (قنوبين عرفت متصوفين مسلمين قادهم العشق الإلهي والاشتياق إلى الله، إلى ملاقاته في مغاورها والمحابس). ومغارتا المأذنة وحامدة حاملتا الاسمين المسلمين تفتح بوابة البحث عن أولئك المتصوفين التواقين إلى الله بنسكهم الشديد".
وأردفت "الشيخ هاني فحص على خطاهم كان يأتي قنوبين ليستطيب أكثر طعم الوحدة واللقاء، وليمحو من قاموسنا العام والخاص دواوين التباعد والافتراق. كان يأتي ليحيي مع أنقياء قنوبين مساحات التلاقي والجسور في زمن الجدران السميكة اليابسة، وليحيي عيش التخلي في زمن التهافت، وعيش الغنى بفقر إنجيلي باق في زمن الفقر والجوع بكنوز المال العابر، وكان يقر في كل لقاء فوق تراب قنوبين بأنه أغنى الأغنياء بتلك الينابيع الروحية التي لا تنضب عن التجديد في سبيل التوحيد".
وأشارت إلى أنّه "عرف قنوبين من بوابتيها الشرقية والغربية، من ظلال الأرز الصبور، إلى شلالات قاديشا، ناثرة رياحين المجد والحب والجمال، إلى بخور مار أليشاع منبت الرهبان الأوائل الراسخين في الفقر والصلاة منذ عام 1695، إلى مسابح بطاركة قنوبين منذ عام 1440، في ديرهم العتيق، يسترجع كل صباح ومساء رنين الأجراس لاستجماع المؤمنين، صدى يتردد منذ المرة الأولى التي قرعت فيها أجراس الشرق المظلم في شعاعات وادي القديسين عام 1112، ومنها إلى محبسة حوقا أم المدارس المنوّرة منذ عام 1924، إلى كل الصفحات المضيئة التي شاءها الله مرايا وجهه في قنوبين".
واختتمت "غدًا في المشاوير الآتية، ستغيب قدما الشيخ هاني فحص عن تراب قنوبين، لكننا في كنيسة البابا فرنسيس، وبشارة الراعي، كنيسة البشر قبل الحجر سنظل معه في مشاوير اللقاء الدائم، وتجسيد إنجيل وقرآن المحبة، وقبول الآخر المختلف، والتبشير الدائم بأن الخلاص كائن في قنوبين، وفيها فقط.
أمس صلينا معه في قنوبين. كما اعتدنا الصلاة كل عام. وصلينا له ليهنأ أكثر حيث اعتلى وسما، وسنظل نصلي معًا، مع أجيال الأنقياء والأصفياء، وسنظل نغب معًا من ينبوع الله الواحد، الشيخ هاني فحص، هانئ في زمانه ومكانه الأبديين، ونحن هانئون بالطموح إليه".
وشارك في التشييع ممثل رئيس مجلس النواب نبيه بري النائب هاني قبيسي، وممثل الرئيس الفلسطيني محمود عباس عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" الدكتور عزام الأحمد، ممثل نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، والمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، وممثل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن الشيخ غاندي مكارم، وزير الزراعة أكرم شهيب، يرافقه وفد من الحزب "التقدمي الاشتراكي"، السفير الفلسطيني لدى بيروت أشرف دبور، ورئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد، والنواب علاء الدين ترو، وياسين جابر، وعبداللطيف الزين، وعلي عسيران، وعبد المجيد صالح، والنائب السابق حبيب صادق، ورئيس المجلس الأعلى للجمارك العميد نزار خليل، وممثل الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله الشيخ نبيل قاووق، وعضو هيئة الرئاسة في حركة "أمل" خليل حمدان.
وحضر وفد قيادي فلسطيني ضم رئيس الصندوق القومي الفلسطيني الدكتور رمزي خوري، وأمين سر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وحركة "فتح" في لبنان فتحي أبو العردات، والمستشار الإعلامي للأمين العام لـ"حزب الله" محمد عفيفي، ورئيس مؤسسات "العرفان" الدرزية الشيخ علي زين، والمنسق العام للحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق معن بشور، وإمام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق، ورئيس مؤسسة "أديان" الأب فادي ضو، يرافقه وفد من المؤسسة، إضافة إلى شخصيات سياسية، وحزبية، واجتماعية، وتربوية، وإعلامية، وعلماء دين من مختلف الطوائف.
وجاب الموكب الشارع الرئيسي للبلدة، وصولًا إلى باحة النادي الحسيني، حيث أمَّ العلامة السيد محمد حسن الـمين الصلاة على الجثمان ليوارى في الثرى في مقبرة البلدة.
وانخرط السيد الراحل الذي ناضل من أجل القضية الفلسطينية في صفوف حركة "فتح" منذ بداية انطلاقتها، وكان صديقًا للرئيس الشهيد ياسر عرفات، الذي يشغل الآن عضو مجلس أمناء المؤسّسة التي تحمل اسمه بعد استشهاده، واستمرّت علاقة الصداقة مع الرئيس محمود عباس، والقيادات الفلسطينية، فهو "الفدائي" الذي كان علامة مميّزة في صفوف الثورة الفلسطينية، كإبن الجنوب، مدافعًا عن قضية العرب والمسلمين الأولى.
وكان السيد المثقّف، يرى أنّ المجتمع الأهلي شريك أساسي في الكيان اللبناني والعربي، لذلك نشط في هذا المجال، من دون أنْ يبعده ذلك عن السياسة، التي قاربها في الانتخابات النيابية في العام 1974، قبل عزوفه، فيما ترشّح بعد عودة الحياة النيابية في العام 1992 عن أحد المقاعد الشيعية الثلاثة في منطقة النبطية، ولم يحالفه الحظ.
ويعتبر العلامة السيد هاني فحص مؤسّسة في شخص، هو رجل الدين، والمثقّف، والمحاور، والكاتب والمؤلّف والصحافي، وما إلى هنالك، كل ذلك بهدف إبراز الصورة الحقيقية للإسلام السمح، الذي يحثُّ على التمسّك بالتعاليم السماوية، وترسيخ العيش مع شريكه المسيحي، وهو ما عمل عليه في كافة المحافل، وخاصة في مجال الحوار الإسلامي – المسيحي، ليس على صعيد لبنان، بل في العالم العربي.
ورحل السيد هاني عن 68 عامًا، تاركًا إرثًا ثقافيًا، وسمعة طيّبة، وأسرة مناضلة ومثقّفة، فيعود إلى بلدة جبشيت، ليرقد هناك بعد ظهر الجمعة، إلى جوار شيخ شهداء المقاومة الشيخ راغب حرب، وثلّة من الشهداء والمقاومين، ومن هناك على مقربة من قلعة الشقيف، في قلب منطقة النبطية، التي كانت شاهدة على صولات وجولات السيد هاني، لينام هانئًا، وهو يُطلُّ على فلسطين التي ناضل لأجلها، حتى الرمق الأخير، والتي كان يمني النفس بأن يزورها ويصلي في الأقصى محررًا.
وإنْ كان البعض قد اختلف مع السيد الهاني، في وجهات النظر في لبنان، فإنّ فلسطين بقيت هي القاسم المشترك، على أمل أنْ يتم إطلاق اسمه على أحد المعالم الفلسطينية، وأنْ يتحقّق حلمه بتحرير أرض المرسلين
أرسل تعليقك