أصبح مفهوم "باكس أميركانا" مهددًا بالزوال بشكل كبير، بسبب طغيان العديد من العوامل، من بينها العولمة، وصعود الصين، وظهور الدور الانتقامي لروسيا، ما دفع إلى إعادة ترتيب العديد من المؤسسات العالمية، وذلك بعد أن ظل هذا المفهوم سببًا رئيسيًا في السلام والازدهار، لأكثر من سبعين عامًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وشهد عام 2016، تسارعًا كبيرًا في تفكك النظام العالمي القديم، وكان انتخاب دونالد ترامب ليكون رئيسًا للولايات المتحدة، إضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، بالتزامن مع صعود الحركات الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا، سببًا مهمًا في حالة الضبابية، التي تخيم على مستقبل العالم الذي يقوده الغرب. وهنا يصيغ أستاذ العلوم السياسية إيان بريمر، مصطلح "مجموعة الصفر" في إشارة إلى عالم جديد دون أي قيادة عالمية واضحة، وأجرت صحيفة "التيليغراف"، حوارًا معه، للحديث عن المستجدات، التي طرأت على النظام العالمي، ورؤيته حول مستقبل العالم في ضوء التطورات الأخيرة.
وأوضح بريمر قائلًا "من المنظور الدولي، ينبغي أن نكون قلقين جدًا، فالعالم بصدد نهاية "باكس أميركانا"، لتبدأ الأن مرحلة جديدة وهي مرحلة "مجموعة الصفر"، والتي بدأت فعليًا. واحدة من أفضل الأشياء عندما تصبح دولة ما قوة عظمى، هي أنه لا يستطيع أحد أن يضر بها أكثر مما تستطيع هي نفسها أن تفعل بنفسها، وهو الأمر الذي يعدّ في الوقت نفسه أمرًا سيئًا. وربما لمسنا هذا بأنفسنا عندما تبنت الولايات المتحدة رد فعل مبالغ فيه، للتعامل مع أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر، وهو الأمر الذي أضر بالولايات المتحدة أمام العالم، وذلك حتى تفوقنا على أنفسنا مؤخرًا باختيار دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية الأخيرة".
وأضاف "من الواضح أن الولايات المتحدة لم يعدّ لها نفس المصداقية، التي كانت تحظى بها يومًا ما، بل والأكثر من ذلك أن الناخبين الأميركيين أنفسهم لم يعودوا يرغبون في القيام بدور الشرطي العالمي أو مهندس التجارة العالمي أو داعم القيم العالمية، والمشكلة الحقيقية أنه لا يوجد من يمكنه القيام بهذا الدور سوى الولايات المتحدة، وبالتالي فإذا فشلت أميركا في القيام بهذا الدور، لن يستطيع أي لاعب أخر على المستوى الدولي القيام بنفس الدور".
وتابع بريمر "لعل المفارقة الملفتة للانتباه، أن العالم يبدو أفضل في الوضع الراهن، مما كان عليه من قبل، وأصبحت نسبة الأشخاص الذين يعيشون في حالة من الفقر المضجع، لا تتجاوز الـ10 في المائة، وهو الأمر الذي يعدّ بمثابة إنجاز كبير لم يتحقق من قبل، وهو الأمر الذي يرجع في جزء كبير منه إلى الدور الكبير الذي تلعبه التكنولوجيا، ولكن يبقى التساؤل هو هل لدينا الأدوات أو السياسات التي من شأنها تحويل العالم إلى مكان أفضل في المستقبل؟".
وواصل حديثه قائلًا "إرث السياسة الخارجية للرئيس الأميركي المنتهية ولايته كان سيئًا للغاية، فقد فشل في الوصول إلى اتفاق للشراكة عبر المحيط، وهو الاتفاق الذي كان من شأنه إحداث فارق كبير، بينما جاءت اتفاقية باريس المناخية متأخرة للغاية، كما كانت السياسات التي تبنتها الإدارة تجاه روسيا فاشلة تمامًا، وربما تكون السبب التي يدفع ترامب لإظهار مدى تقاربه مع أصدقاءه الروس، وخلال حقبة أوباما، تدهورت العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، لتصل إلى أسوأ درجاتها منذ أكثر من 70 عامًا، كما أن الناتو لم يحقق تقدمًا كبيرًا في ظل وجوده على رأس الإدارة الأميركية، ولكن تبقى هناك بعض الإنجازات، منها الاتفاق النووي الإيراني، والذي إذا ما أراد ترامب تقويضه فسيكون ذلك بشكل أحادي، حيث لن يسير وراءه الحلفاء في هذا المنحى، وكذلك سيكون هذا التوجه متعارضًا مع روسيا، والتي ساهمت في البداية بدور من أجل إبرام تلك الصفقة.
ورد على سؤال هل نهاية الاتحاد الأوروبي عندما تفوز مارين لوبان بالرئاسة في فرنسا، قائلًا "بالطبع لا.. الاتحاد الأوروبي يمكنه القيام بالكثير حتى إذا ما فازت لوبان بالرئاسة في فرنسا في الانتخابات الرئاسية المقررة في الربيع المقبل، ولكن الطموح الذي يقوم على المبادئ المشتركة القائمة على سيادة القانون والهوية العابرة للحدود، ربما ستكون انتهت، ولقد بدأنا نرى بالفعل صعودًا كبيرًا للتيار الشعبوي في العديد من دول أوروبا، ولكن صعود لوبان للرئاسة في فرنسا سيأخذ هذا الخطر إلى مدى ربما أبعد بكثير من الوضع الحالي"
واستطرد "فوز ترامب ربما سيقلل كثيرًا من خطورة التأثير على الاستقرار العالمي، لأن فوز كلينتون كان سيعني مزيدًا من تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو الأمر الذي كان سيمثل تهديدًا خطيرًا للاستقرار العالمي. وستستمر سابقة الشفافية القسرية في النمو، خلال المرحلة المقبلة، بينما ستكون السلطة المركزية للحكومات، تحت تهديد حقيقي في المرحلة المقبلة في كل أنحاء العالم، وهو الأمر الذي يمثل خطورة كبيرة، لأنه سيؤدي إلى مؤسسات هشة وضعيفة في كل أنحاء العالم، وتبقى الولايات المتحدة أكبر اقتصاد عالمي، حيث أنها سوق جذاب للغاية للمستثمرين الأجانب، وهو الأمر الذي لن يشهد أي تغيير في أي وقت قريب. إلا أن الأمر المؤكد هو أن الولايات المتحدة لن يلعب دور في قيادة التجارة العالمية بعد الآن، ولذلك نحن ذاهبون إلى الاستمرار في رؤية التجارة العالمية في شكل جديد في ظل إدارة ترامب. ونحن في طريقنا أيضًا أن نرى حلفاء الولايات المتحدة يتحوطون أسرع بعيدًا عن الولايات المتحدة على مدى أربعة إلى ثمانية أعوام مقبلة".
وأكد بريمر أن أكبر القوى الطاردة في شؤون العالم في الوقت الراهن، هي الشعبوية، والمدعومة من قبل التكنولوجيا، حيث تبقى ذات تأثير خاص في الولايات المتحدة وأوروبا، وذلك بالرغم من كونها ظاهرة عالمية. وتآكل شبكة الأمان الاجتماعي، والذي يقوض شرعية المؤسسات القائمة، لا سيما بالنسبة للحكومات المركزية. والصعود المستمر للصين على المستوى الاقتصادي إلى جانب الصعود المستمر لبوتين على المستوى السياسي.
واختتم حديثه بالرد على سؤال "روسيا قوضت الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة في سورية، هل ترى أملًا في تحسن دور المنظمة الدولية بعد تولي أنطونيو جوتيريس قيادة المنظمة الدولية"، قائلًا "الأمر سيكون أكثر صعوبة، حيث أن رؤى ترامب تقوم على رفض العولمة ومبادئها التي تجسدها منظمة الأمم المتحدة. وجلست لتناول العشاء مع أنطونيو بعد الانتخابات الأميركية مباشرة، حيث أكد الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أن وصول ترامب للبيت الأبيض سيؤثر بصورة مباشرة على جدول أعماله. والتوقعات تدور بصورة كبيرة نحو انخفاض الميزانيات المرتبطة بالعديد من البنود المثارة على مائدة المنظمة الأممية، منها ما يرتبط بقضية التغير المناخي، وغيرها من القضايا الأخرى في ظل إقدام الصين على الاتجاه إلى دعم بنك الاستثمار والبنية الأساسية على حساب البنك الدولي، وهو الأمر الذي رحبت به بريطانيا بينما رفضته إدارة أوباما".
أرسل تعليقك