وصف أحد الصحافيين البريطانيين من أصل عراقي، خلال زيارته إلى إحدى المدن التي تسيطر عليها جماعة "الحوثي"، بعد أن دمرتها غارات الطائرات السعودية، أن كل شيء من اليمن السعيد انتهى الآن.
وأضاف الصحفي، كان للغارات السعودية عامل الخراب في مدينة صعدة اليمنية داخلها وخارجها، فكل شيء في المدينة قد دمر، من بنية سوق صعدة المحلي والمباني الملحقة وأعمدة الإنارة حتى طال التدمير السلع البترولية. فبعد 20 شهرًا من الغارات السعودية على اليمن، أصبحت مدينة "صعدة" مساوية التراب في الدمار، إذ خلفت الغارات أكثر من 10 آلف قتيل و3 ملايين مشرد وأكثر من 14 مليون - حوالي أكثر من نصف الشعب اليمني- ترك يعاني الأمرين، النقص في الغذاء والدخول في خطر المجاعة.
وتحدث وزير الخارجية البريطاني "الكسندر دي بوريس جونسون" أخيرا على نحو مثير للقلق عن المملكة العربية السعودية وعن حرب الوكالة التي تخوضها في منطقة الشرق الأوسط كانت هي الطريقة المعهودة عليه في الحديث عن تلك الأمور. فمن البديهي أن نفهم أن ما يحدث في اليمن هي "حرب عن بعد" يتحكم بها طرفان، الطرف السعودي التي تدعمه الحكومة المخلوعة والطرف الثاني جماعة "الحوثي" الموالية لإيران. فالآن كل شيء في اليمن يسير على نحو غريب أكثر من أي وقت مضى، فهناك أكثر من لاعب في الساحة اليمينة من انفصاليين ورجال قبائل ووحدات للجيش النظامي، بالإضافة للولايات المتحدة التي تستهدف المتشددين بعمليات القتل بالطائرات بدون الطيار كما تقدم الدعم التقني لغارات السعودية، مع وجود مستشارين عسكريين بريطانيين لتقديم العون للسعودية أيضا، الأمر الذي أغفله وزير الخارجية البريطاني "الكسندر دي بوريس جونسون".
وأجاب أحد أعضاء مجلس صعدة المحلي "الشيخ أحمد" عن مقاصد الغارات السعودية التي تستهدف المنازل الأثرية والأسواق التي تبيع الزبيب، بأن السعودية تضربنا بكل حقد وبغض. وكان يقول تلك الكلمات مرتديا الرداء اليمني واقفا على أنقاض الغارات السعودية التي دمرت المباني الأثرية التي يرجع عمرها إلى قرابة 400 سنة، فما كان من "الشيخ أحمد" إلا أن يلملم جراح بجمع ما تبقي من الآثار اليمنية القديمة.
ويعيش "عبد الله الأبي" على جانب آخر من المدينة المدمرة مع أخوته الأربعة وزوجاته وأطفاله وواحد وثلاثين فردا من أفراد عائلته في بيت العائلة ذو الطوابق الثلاث الذي خلفته الغارات دمارا. حيث قتل في العام السابق 27 فرد من عائلته إثر غارة أستهدفت منزل العائلة ولم يبقي من عائلته سوى والده واثنين من أخوته، وكانت هذه الفاجعة، الأعنف من نوعها منذ وقع الغارات. حيث احتفظ " عبدالله الأبي" على هاتفه النقال بصور أطفاله القتلى، حيث ينظر الى الصور ويبكي حسرة ويقول " كل شيء قد انتهى، فلا يسأل عنا ولا يأخذ بأيدينا أحد، فقد ماتت عشيرتي وتركونا عراة الظهر نبكي حالنا، فأنا ومن تبقى من عشيرتي نعيش في حجرة صغيرة ولا أحد يملك رمق الحديث للآخر."
وتجمع وفد رفيع من الرجال بوجه لامع مع شروق شمس الجمعة، عند مدخل المقابر على أطراف المدينة ليصلوا صلاة الجنازة على من حضرهم من أحد الرجال الذي قتل في المعارك الضارية بالخطوط الأمامية شرقي البلاد. وبعد صلاة الجنازة، ارتفعت حناجرهم بالدعاء لجماعة الحوثي أن يثبتهم كما دعوا بإعلاء كلمة الإسلام ودحر الأميركان واليهود.
ولم تتغير الحدود الجبلية الفاصلة بين جماعة الحوثي والقبائل الموالية للسعودية منذ قرابة السنتين من الصراع، لكن لا ينطبق هذا الأمر على المقابر التي تعد واحدة من الأشياء المنتشرة بأنحاء المدينة كلها. إذ تضاعف بكثرة عدد القبور التي وضع عليها أكاليل الزهور وصور الضحايا، فهذه المقابر الآن تضم المقاتلين والمدنيين ضحايا الصراع الدائر، الذي بدأ عام 2015 حين زحفت جنوبا جماعة الحوثي ورجال قبائل الشمال اليمني نحو العاصمة صنعاء التي يحكمها السنه، ما نتج عنه فرار الرئيس المنتخب " عبد ربه منصور هادي" إلى مدينة عدن ومنها إلى السعودية.
فلم يبق أمام السعودية سوى التدخل بدعم القوات الحكومية المعترف بها دوليا، لكن هذا الأمر سرعان ما أصبح "حربا بالوكالة" بين غريمها الإيراني الذي يسعي لفرض قبضته على اليمن. إذ كشفت هذه الحرب عن صراعات شتى كالصراعات الإقليمية بين الانفصاليين في الجنوب والشمال والصراع الدائر بين الجهاديين ورجال القبائل، وكذلك الحصار الخانق لمدينة تعز من قبل جماعة الحوثي. ومع كل هذه الصراعات الفرعية، فإن القوى المحلية الموجودة باليمن تحركها المصلحة أو المظلمة. ويدل على ذلك أحد الصحفيين المحليين بقوله "لا أحد يعلم كيف ينهى هذه الحرب الضروس، إذ يقول زعيم الحوثين إن حكومة الهادي نخرها الفساد الأخلاقي، لذا فرجوعهم إلى سدة الحكم، ما هي سوى أحلام يقظة لن تتحقق"، ويتابع الصحفي المحلي حديثه بأن الغارات السعودية لن يكن لها عامل الحسم على الأرض، كما أن جماعة الحوثي يعظمون من شان أنفسهم كقوة لا تقارن بأعتى القوى الموجودة بالعالم في حين انهم غافلون بأن الدولة تنهار منهما تبعا ومن ثم تنهار اليمن.
وبعد أن فرغ الجمع من صلاة الجنازة، وعلى مرى حجرة من ذلك، كان رجل خمسيني مرتدي معطفا أزرقا ودشداشة بيضاء وقد جلس على حطام منزله يرثيه ويقول " لقد سقطت القذيفة هنا فدمرت كل شيء" ويتابع بأنه نزح إلى هذه البلدة العام الماضي لكنه ينوي العودة إلى بلدته ليموت فيها لعدم قدرته عن توفير الطعام والشراب وكذلك ثمن إيجار المسكن، فقد يصبرون على القنابل والغارات لكنهم لا يمكنهم الصبر على الجوع والعطش.
وتجمع في غرفة ضيقة بأحد المنازل في مدينة "صعدة"، بعض من الأصدقاء في تلك الغرفة التي يملأها الدخان القادم من الموقد لمناقشة أوضاع اليمن السياسية، فكلما اشتدت حمية النقاش كلما تحركت أعمدة الدخان لترتطم بالنافذة فتحركها، وقد بدى على ملامحهم التركيز الشديد. فالوضع الآن في اليمن يشهد ركودا غريبا، فإن لم تكن تلك الحرب حربا ضارية لكانت أشبه بحروب ألعاب الأطفال السخيفة، فما من جديد يحدث على الأرض، فجبهات القتال الأمامية لا تشهد تطورات جديدة ولا تحرك، كما أصبحت الغارات السعودية روتينا تعود عليه الشعب اليمني. فإن كانت الحرب العسكرية في اليمن تشهد حالة من الركود فإن الحرب الاقتصادية تشهد تأجيجا مدمرا، فتعد اليمن من أكثر الدول العربية فقرا، فالصراع في اليمن يزيد الطين بله ويعجل بانهيارها وانهيار مؤسساتها. فلم يبقي من المؤسسات اليمنية جراء الدمار سوى البنك المركزي اليمني الذي قرر الرئيس اليمني "الهادي" نقل مقره إلى عدن، ونتيجة لذلك لم تكن هناك أي مؤسسة ترأب الصدع في الاقتصاد اليميني كما حال ذلك من وصول العملة الصعبة إلى الشمال اليمني. بالإضافة إلى عدم حصول 1.2 مليون موظف حكومي على أجورهم منذ ثلاث أشهر ما يحرم حوالي 8 مليون فرد من الدخل.
وأرغمت حكومة الحوثي المواطنين على الدفع نقدا لمنتجات البترول والغاز، كما سحبت ما بقي من أموال في الشمال. ويقول أحد المواطنين في العاصمة إن الحرب لها وقع شديد على الدولة، لكن الاقتصاد هو ما سينهي أحلام الحوثي ويجعلهم يتمنون أنهاء الحرب بأي طريقة كانت، فقوتهم العسكرية لا يشق عليها غبار لكن الوضع الاقتصادي، يجعلهم يعانون من حكم اليمن.
وعلى نفس المنوال، فالحصار الاقتصادي الخانق الذي يمر به اليمن يعتبر فرصة سانحة لظهور الأسواق السوداء والتجارة الحرة التي تنشأ على حطام الحروب. فتمتلأ بطون أرباب الحروب ورجال الأعمال بينما تأن بطون باقي المواطنين اليمنيين. فعلى سواحل مدينة "تهامة" اليمنية تضاعفت أعداد الأطفال الذين يعانون من أمراض سوء التغذية إلى ثلاث أضعاف منذ بداية الحرب.
ونشرت هيئة الأمم المتحدة تقريرا يفيد بأن 1.5 مليون طفل تحت سن الخامسة يعانون أمراض سوء التغذية، بينما يعاني 370 ألف منهم أمراض سوء التغذية الحادة. ويدلل على ذلك أحد العاملين التابعين للأمم المتحدة بأن هؤلاء الأطفال حسم مصيرهم بين أمرين إما أن يموتوا أو يعيشوا بأمراض نقص النمو ومن ثم يكونوا عبئا على كاهل المجتمع اليمني، كما أن اليمن مهدد بخسارة جيلين على الأقل من جراء هذه الحرب. فاليمن الآن على شفا انهيار منظومتها الصحية بالكامل، فلا شيء من نظام صحي سوى جهود المنظمات الدولية التي تضخ الأموال لدفع الرواتب وجلب الدواء.
فضلا عن ذلك، لم يبقي في مدينة صعدة من نظام الصحة اليمني سوي مستشفى صعدة للولادة والأمومة، ففي أحد غرف المستشفى تقبع أما لطفل متشحة بالسواد وقد أخذت جانبا لترضع رضيعها ذو الخمسة شهور والذي يعاني مرض سوء التغذية الحاد، ليبادرها رضيعها بعننيه الكبيرتين التي ملائها الدموع ورأسه التي تساقط منها الشعر. في تلك الأجواء المأساوية، يصرخ أحد الآباء في الطبيب المعالج " اكل شيء وجب علينا شراءه، من لبن للأطفال ودواء وغير ذلك، الأمر الذي بعت له كل شيء أملكه من خنجري اليمني لبندقيتي حتى الأرض التي أملكها قد بعته، لم يعد لي ما أملكه. سوف اذهب لأقتل نفسي لارتاح من كل هذا العذاب."
أما في الطابق السفلي من هذه المشفى، تقبع غرفة الطوارئ الصغيرة التي عم أركانها الظلام وضيق النفس، فعلى حائطها علقت لافته لمنظمة اليونيسف بجانبها أحد الملصقات الدينية ببعض الآيات القرآنية. وخلف مكتب معدني وقفت احدى الطبيبات بمعطف ناصع البياض وحجاب أزرق، وقد بدى عليها الذكاء من نظرتها الحادة الآتية من خلف الكمامة الطبية التي ترتديها. وفي مواجهتها تراصت مجموعة من النساء متشحات بالنقاب الأسود يحملن أطفالهن الصغار الذي نال منهم المرض بنسب متفاوتة. إذ تتقدم أم تلو الأخرى لتضع صغيرها على المكتب المعدني وسط الأوراق وأشرطة الدواء لتقوم الطبيبة بدورها بتؤدة في فحصهم وتحديد ما بهم من مرض. لكن العديد من اليمنيين يشكون حال غرفة الطوارئ في المشفى، فكل شيء عليهم شراؤه من حقن وضمادات وغيرها من المستلزمات الطبية لكي يتم معالجتهم. ويشير لذلك أحد الأطباء الشباب في غرفة الطوارئ بأن مشكلة اليمن العويصة من تلك الحرب هي الفقر الذي نال جميع المواطنين. وتابعت أنها لازلت طالبة حديثة عهدها بالطب، وأن الأطباء الأساسين سوف يتوارون عن الأنظار بسبب عدم حصولهم على رواتبهم، وهذا سيزيد الجرح ألما لان غرفة الطوارئ هذه تشهدا يوميا عرض أكثر من 400 حالة.
وتنهي الطبية قولها "أننا نعيش في مدينة أسوارها الاكتئاب والحسرة، فننظر للأطفال ولا نملك فعل شيئ حيالهم سوى أن نظهر لهم ولذويهم أن كل شيء على ما يرام.
أرسل تعليقك