تبددت البسمة التي ارتسمت على شفاه شعب جنوب السودان بعد مرور 5 أعوام على الانفصال من دولة السودان، بسبب التعثر الذي لازم هذه الدولة الوليدة، التي بدأت العمل للوقوف على أرجلها رويدًا رويدًا في العامين الأولين من إعلان الانفصال، وإطفاء بعض بؤر التوتر نتيجة لتمرد بعض القادة الذي لم يكن مؤثرًا وقتها، إلى أن اندلعت أشرس حرب عشية عيد الميلاد 2013 بين الرئيس سلفاكير ونائبه ريك مشار، قتل فيها الآلاف ودمرت مدن وبنية تحتية، وبعد عامين عادت البسمة من جديد جراء توقيع اتفاق سلام بين الطرفين المتحاربين، وجرى تشكيل حكومة انتقالية جديدة، لكن مع هذا لم يشعر المواطن بهذا السلام الهش، نتيجة لبعض التفلتات والتمردات في بعض الولايات البعيدة من جوبا العاصمة، إضافة إلى التدهور الاقتصادي الذي انعكس سلباً على حياة المواطنين في ظل تأخر وصول دعم الدول المانحة، وعودة موجات النزوح إلى السودان والدول المجاورة.
رغم ذلك فهناك بعض الإشراقات رغم البؤس الذي يخيم على الجميع، فالمدارس رغم النقص مازالت تستقبل الطلاب المتطلعين إلى غد أفضل، والجامعات تعج بالحياة الأكاديمية، والخدمة المدنية تبني نفسها رغم الصعوبات والفساد، بالتزامن مع استكمال انضمام جنوب السودان إلى المؤسسات الدولية والإقليمية، وآخرها انضمامه إلى تكتل شرق ووسط إفريقيا السياسي والاقتصادي، وعدم ممانعته في دراسة الانضمام لجامعة الدول العربية، ورغم البؤس المقيم تظل إرادة شعب جنوب السودان اللحاق بما فاته من التقدم والحضارة، رغم فشل النخبة السياسية في تحويل هذه الآمال إلى واقع.
وأعلنت الحكومة في جوبا عاصمة الدولة الوليدة بأنها ستعلق احتفالات الاستقلال هذا العام، لعدم وجود الأموال الكافية لإقامة تلك الاحتفالات، والتي تكبد الخزانة العامة مبلغ 10 ملايين جنيه (نحو مليوني دولار)، وقال مايكل مكوي لويث، وزير الإعلام، إن إحياء الذكرى الخامسة للاستقلال ستتم في صمت، وإن المجلس قرر الاستعاضة عن إقامة الاحتفالات، بخطاب للرئيس سلفاكير إلى الشعب، تنقله وسائل الإعلام المحلية، وهذا القرار يحمل شقين: أن الحكومة استشعرت المسؤولية بعدم صرف أموال طائلة في احتفالات، في ظل حالة التقشف التي انتهجتها، خاصة بعد أن أعلنت أنها لن تشتري سيارات فارهة لوزرائها المعينين، لكن في الشق الآخر يحمل معنى أن الأوضاع المالية ليست على مايرام، وأن الخزينة العامة لم تعد بها الموارد الكافية لتلبية احتياجات الدولة، وهو ما نلحظه في قرار القضاة بالدولة، الدخول في إضراب مفتوح، على خلفية مطلبهم بإجراء إصلاحات في الجهاز القضائي ودفع بدلات أكثر من أربع سنوات، الأمر الذي يكشف عمق الأزمة الاقتصادية التي تحيط بخناق هذا البلد، بل وصل الأمر إلى تأكيد وزير الإعلام، لوسائل إعلام محلية، أخيراً، عدم استلام راتبه لمدة ثلاثة أشهر.
وارتفع سعر صرف الدولار في دولة جنوب السودان إلى أرقام قياسية، حيث وصل لأول مرة في تاريخ الدولة الوليدة إلى 50 جنيها في السوق السوداء، في حين يبلغ سعره الرسمي 35 جنيها، وبدأ سعر الدولار بالارتفاع تدريجياً خلال الأشهر الأخيرة، عقب سياسة تعويم الجنيه، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وتحول حياة المواطن جراء ذلك إلى جحيم لا يطاق، ويعزى انخفاض قيمة عملة جنوب السودان إلى تدهور إنتاج النفط وانخفاض أسعاره عالمياً، بالإضافة إلى تطبيق الحكومة سياسة تعويم العملة، وتأخر المانحين في ضخ أموال المساعدات بسبب اتهامهم طرفي النزاع في الدولة بعدم الجدية في إنفاذ اتفاقية السلام الثنائية. وكان المانحون قد اشترطوا على طرفي النزاع، وهما الحكومة الحالية برئاسة سلفاكير، ومعارضيه بقيادة مشار، التوصل إلى اتفاق لإنهاء النزاع بينهما كشرط أساسي من شروط تقديم المساعدات، لكنهم لم يفوا بوعودهم إلى الآن، وللأزمة وجه آخر يتعلق بالنفط الذي يعتبر دعامة اقتصاد هذا البلد، إذ يقول وزير البترول والمعادن، استيفن داو، إن حقول النفط في ولاية الوحدة - المنتج الأكبر للنفط - تحتاج إلى ما يزيد عن العام من أجل تقييم الأضرار، وإصلاحها لتنتج نصف ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب، مشيراً إلى أن عودة إنتاج جنوب السودان إلى ما كان عليه عند الانفصال يحتاج إلى وقت طويل، والأمر يعني أنه إذا لم تنجح جوبا في جذب استثمارات جديدة، والعمل في حقول جديدة وتطوير الحقول القائمة بولاية أعالي النيل، فإن الاقتصاد بدولة الجنوب سيمر بفترة ركود طويله تقعده عن النمو مرة أخرى لسد عجز موازنة الدولة.
وسيظل الإنفاق على قطاع الأمن الهاجس الذي يواجه الميزانية العامة، كونه يستهلك أكثر من 53% من الميزانية التي كانت 3 مليارات دولار عام 2011، وفي ظل حالة التفلتات الأمنية والمعارك الصغيرة التي تدور هنا وهناك، فإن الأمن والإنفاق العسكري سيكبل دولة جنوب السودان عن النهوض والوفاء بأحلام شعبها في الرخاء والنماء.
وظن الجميع أن اتفاق السلام الذي جرى توقيعه بين سلفا كير ونائبه مشار سيضع قطار السلام والتنمية في جنوب السودان في مساره للمضي إلى الأمام، لكن ما يزال الاتفاق يكافح بشده للبقاء والانطلاق إلى سعة التنفيذ، التي بدأت بتشكيل الحكومة الانتقالية التي دارت عجلتها واجتماعاتها، بعد تنفيذ بند إخراج الجيش الحكومي عن العاصمة جوبا، وصار للحكومة لسان واحد تتحدث به مع المجتمع الدولي والمانحين لاستقطاب الدعم، واختفت ثنائية الحكومة والمعارضة وانخرطت في تحريك بعض الملفات المعلقة مع دولة السودان المجاورة عبر اجتماعات اللجنة السياسية والأمنية التي انعقدت في الخرطوم، لتنفيذ بروتكولات التعاون بين البلدين، ومعالجة سعر نقل النفط من الجنوب إلى موانئ السودان ومنها للعالم، لتحريك عجلة الاقتصاد برغم تدهور أسعار النفط الذي تعتمد عليه حكومة جوبا، من الجهة الثانية فإن الاتفاق ما يزال يواجه صعوبات جمة تتمثل في العقدة الكبرى وهي اقتسام السلطة في الولايات، والذي تعثر بعد إعلان حكومة الجنوب قبل الاتفاق النهائي للسلام بإعلان تقسيم البلاد إلى 28 ولاية بدلاً عن 10 ولايات، وفق ما نص عليه اتفاق السلام، وتمترس كل طرف في حجته التي يسوقها، ما عطل تدفق أموال المانحين الذين اشترطوا حل هذه المعضلة، كما لم يتم معالجة دمج المعارضين في البرلمان، وتعزر انتخاب رئيس جديد له، وكلها شواغل تعيق تنفيذ الاتفاق.
نجاح حكومة جنوب السودان في توقيع اتفاق سلام مع المعارضة المسلحة الأكبر في البلاد لم ينجح في كبح جماح العنف، أو ربما أغرى كثيرين لحمل السلاح ضد الدولة، وكان آخرها أعمال العنف الشديدة التي وقعت في ولاية لول الجديدة وعاصمتها راجا التي كانت تتبع لولاية غرب بحر الغزال الكبرى، التي سقط جراءها العشرات من الضحايا، ثم انتقلت أعمال العنف إلى مدينة واو التي تعد ثالث أكبر مدينة في البلاد.
وصرّح وزير الإعلام في جنوب السودان أن جماعة متمردة جديدة تشكلت، وتعمل ضد الحكومة، وذلك بعد أشهر من التوقيع على اتفاق السلام مع جماعة مشار. واشتبكت الجماعة الجديدة، التي يقودها السياسي المخضرم والإسلامي، علي تميم فرتاك، اشتبكت مع القوات الحكومية في منطقة واو، على مدار أيام في أواخر يونيو/حزيران الماضي، ما أدى إلى مقتل 39 مدنياً وأربعة شرطيين، وسبق وأن أعلن الجنرال جونسون أولوني، أحد قادة المتمردين في جنوب السودان، في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إنه قد يحمل السلاح مجدداً، بالرغم من توقيع اتفاقية سلام قبل ستة أشهر، وأضاف أن الحكومة "تقوض الاتفاقية بهجمات تشنها ضد مدنيين وإعدادها خطة جديدة لتوسعة حدودها". وقال أولوني وهو من قبيلة "الشلك" ثالث أكبر القبائل في جنوب السودان، إنه لا يتوقع أن تنجح اتفاقية السلام، وأنه ساخط بسبب استيلاء الحكومة على أراض تابعة لقبيلته، وعبر أيضاً عن غضبه من خطة الرئيس بتحويل الولايات العشر التي يتكون منها جنوب السودان إلى 28، وقال إن استيلاء الحكومة على الأراضي دفع قبيلته إلى حمل السلاح في الماضي، وقد تفعل ذلك مجدداً، ومازال التوتر يخيم على ولاية أعالي النيل الكبرى المنتجة للنفط، حول تقسيم الولايات،حيث يرى بعض المواطنين أن التقسيم اقتطع أراضي تابعة لقبيلة "الشلك" لصالح قبائل أخرى توالي الرئيس في جوبا، كما شهدت ولاية الاستوائية الكبرى التي تضم المكون الأكبر من السكان الذين تتعدد قبائلهم، ولكن يطلق عليهم "الاستوائيين" ظهور تمرد محدود من جماعة أطلقت على نفسها اسم "السهم"، لكن بالرغم من هذه التفلتات الأمنية يظل الجيش الحكومي هو القوة الأكبر في البلاد، ويتمتع بقدرة قتالية فائقة مكنته من تثبيت أقدام الحكم في الجنوب، والرد على كل أعمال التمرد التي تقع بين الفينة والأخرى، لكنه من جهة ثانية يستهلك قدراً كبيراً من ميزانية الدولة لحفظ الأمن، وهو ما يضر بالاقتصاد، كما تتحدث منظمات غربية عن وجود بعض التجاوزات أثناء أدائه عمله لجهة حقوق الإنسان.
وظن مواطنو دولة جنوب السودان أنهم فارقوا حياة النزوح التي وسمت حياتهم لنصف قرن، استغرقته الحرب الأهلية في السودان، وبعد توقيع اتفاق السلام الشامل عام 2005، بدأ المواطنون في العودة إلى قراهم وأعمالهم وحياتهم الطبيعية، حتى العام 2013 عندما اندلع النزاع بين الرئيس ونائبه، ونزح جراء ذلك الصراع مئات الآلاف موزعين في معسكرات تتبع للأمم المتحدة في مدن الجنوب الكبرى، بينما فضل آخرون حياة اللجوء، حيث عادوا إلى دولة السودان، ولم ينجح اتفاق السلام الهش بين الرئيس ونائبه الحالي إلى طمأنتهم للعودة إلى حياتهم الطبيعية من دول الجوار أو معسكرات الأمم المتحدة. ومع أعمال العنف الأخيرة في ولاية بحر الغزال الكبرى غرب البلاد الشهر الماضي، نزح ما يقدر بنحو 12 ألف شخص إلى قاعدة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في واو، وإلى منطقة مجاورة. وتقول الأمم المتحدة إن شبح المجاعة وليس عودة النازحين هي المعاناة الوحيدة، حيث يقاسي أكثر من ثلث السكان من المجاعة في البلد الذي مزقته الحرب والمرض حيث يخيم شبح الجوع في كل أنحائه. ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن ما يصل إلى 5.3 مليون شخص في جنوب السودان ربما يواجهون خطر الافتقار الحاد للأمن الغذائي خلال موسم القحط، ومن يناير إلى مارس صنف البرنامج 2.8 مليون شخص على أنهم في "أزمة"، أو أوضاع غذائية "طارئة" مع معاناة نحو 40 ألفاً من المجاعة.
وأفاد تقرير برنامج الأغذية العالمي المنشور الشهر الماضي "أظهر تحليل الأمن الغذائي الداخلي أن جنوب السودان سيواجه في 2016 أسوأ موسم قحط منذ استقلاله بسبب الافتقار للأمن وضعف إنتاج المحاصيل والنزوح في بعض مناطق البلاد، وهناك مناطق بعينها مثيرة للقلق في ولاية شمال بحر الغزال وولاية شرق الاستوائية الخاليتين من الصراعات".
ويؤكد وزير الزراعة، لام أكول، أن ولايتي الوحدة وبحر الغزال تشهدان المعاناة الأكبر، وقال في هذا الإطار، إن "الظروف في بعض المناطق هناك صنفت ضمن مستوى "الكارثة" أو "المرحلة الخامسة"، وتعلن المجاعة عندما يواجه 20 في المائة من السكان مثل هذه الظروف، وفق التعبير التقني للأمم المتحدة، وقال مسؤول منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" في جنوب السودان ماهيمبو مدوي، إنّ "مستويات سوء التغذية بين الأطفال لاتزال تنذر بخطر حقيقي". وكان برنامج الأغذية العالمي سجل عجزاً بلغ 181 مليون دولار في برامج المساعدة، لا سيما المخصصة للاجئين القادمين من جنوب السودان، الذين لجأ أكثر من 70 ألفاً منهم إلى السودان منذ بداية السنة، هرباً من نقص الطعام وبسبب المعارك.
أرسل تعليقك