يشهد السودان هذه الأيام "ربيعا" مختلفا تكسوه المحبة والطمأنينة، ويعد شهر "ربيع الأول" في التقويم الهجري ربيعا آخر للسودانيين خاصة المتصوفة منهم، ليس سياسيا أو مناخيا، بل روحيا وهم يحتفلون بذكرى مولد النبي محمد صلي الله عليه وسلم في الساحات العامة بمدن وقرى البلاد لـ"12" يوما بلياليها متواصلة تعبق بالأذكار والمدائح والأناشيد النوبية.
تبدأ احتفالات السودانيين بالمولد النبوي في الأول من شهر ربيع الهجري وتنتهي مع بزوغ فجر اليوم الذي ولد فيه نبي الإسلام "12 ربيع أول"، ويحل الربيع النبوي وسرادق وخيام الطرق الصوفية قد نُصبت في كل الساحات العامة، مُزينة بأعلامهم الخضراء ومصابيحهم الملونة ودفوفهم التي يتمايل على وقعها المرتادون وألسنتهم لا تفتر من ذكر الله بأسمائه التسعة والتسعين ومدح نبيه المصطفى.
الساحات الشعبية
"العرب اليوم" تجولت في عدد من ساحات المولد الشعبية في العاصمة المثلثة الخرطوم وشهدت احتفالات المولد الشريف، فكان المشهد مهيبا ويعبر بصدق عن محبة الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الساحات المولد النبوي الشريف الشعبية احتفاءً ومحبة وتعظيما لسيد الخلق أجمعين، حيث انتظمت الطرق الصوفية على اختلاف طوائفها وفرقها وجمعياتها في كل أرجاء العاصمة المثلثة في "ميدان عقرب" بمحلية بحري، و"حوش الخليفة بأم درمان" أكبر ساحة احتفال في السودان، وفي وميدان المولد بالسجانة جنوبي الخرطوم.
وقال الشيخ الجيلي إبراهيم طه من خيمة "الطريقة القادرية المكاشفية بالسجانة" لـ"العرب اليوم" إن الصوفية متوحدة الفكرة والمنهج من أجل تقاسم المحبة، وأشار إلى أنها صوفية على اختلافاتها إلا أن أصلها واحد ومقصدها واحد ولا يأتي ذلك التعدد إلا من باب التنوع كما (المذاهب الأربعة) مصدرها الكتاب والسنة، واستشهد بمقولة شيخه العارف بالله الشيخ عبدالباقي المكاشفي المشهورة بين المتصوفة (تجمعنا الطاعة وتفرقنا المعصية)، وأشار إلى أن قاموس الصوفية أيضا محتشد بهذه المعاني التي توضح معنى التوجه ووحدة المقصد ونوه إلى أن هذه العبارات بسيطة الكلمات ولكنها عميقة الأثر والمعنى مثل "حب الكل، وأفرز شيخك" وقال إنها بمثابة لافتة عريضة في كل أبواب الطرق الصوفية.
المولد في أم درمان
ففي مدينة أم درمان، العاصمة التاريخية للسودان، المشهد مختلف والصورة تزدهي بالزفة التي تجوب شوارع المدينة لتستقر في ميدان الخليفة حيث الشكل الاحتفالي بأهازيجه المميزة، وتبدأ الاحتفالات في اليوم الأول بالزفة الرسمية التي تتقدمها جوقة موسيقية تعرف "الكيته" وسط حضور رسمي وشعبي، وهي بمثابة الإعلان الرسمي ببدء احتفالات المولد النبوي في ساحة الخليفة بمدينة أم درمان في العاصمة الخرطوم، وقبيل صلاة المغرب يتوافد المريدون والأسر إلى سوح المولد ويتزاحمون في السرادق رجالا ونساء، شيبا وشبابا، أصحاء ومرضى، موزعين ما بين حلقات الذكر والوعظ والإنشاد الديني ويتنقل بينهم الصبية من موضع إلى آخر وهم يتبادلون حلوى المولد التي تتنافس المصانع المحلية في تصنيعها.
وفي كل خيمة في ساحة المولد العامرة بالمحبة، كان كل مشهد فيها يُجسد عبقرية الشاعر السوداني الصوفي محمد المهدي المجذوب والذي رسم بكلماته وصفاً عميقاً ودقيقياً لكل تفاصيل المولد في قصيدته المشهورة "ليلة المولد" والتي تغني بكلماتها المويسقار السوداني عبدالكريم الكابلي.
ليلة المولد يا خير الليالي والجمال
و"ربيعا" فتن السحر بالسحر الحلال
ذلك الحسن حياة الغمام
بجموع تلتقى في موسم الخيام
قد تبرجن وأعلن الهيام
وهنا حلقة شيخ يرجحن
يضرب النوبة ضربا فتئن وترن
ثم ترقص هديرا أو تجن
وحواليها طبول صارخات فى الغبار
حولها الحلقة ماجت فى مدار
نقزت ملء الليالي تحت رايات طوال
كسفين ذى سوار في عباب كالجبال
حلويات المولد
من المعالم البارزة التي تضفي مذاقا خاصا ونكهة مختلفة لاحتفلات المولد في السودان ظهور الحلوى الموسمية المعروفة أصلا بـ"حلاوي مولد" بأشكالها المختلفة وعرائسها المزينة.
ويقول مالك أحد محلات الحلويات بساحة الخليفة بأم درمان، السر الحبيب لـ"العرب اليوم" إن الإقبال كان أكثر هذا العام على حلويات المولد رغم ارتفاع الأسعار الكبير بسبب ارتفاع مدخلات الإنتاج وتحرير الأسعار في السودان وأضاف "كل من يأتي إلى المولد لن يخرج بدون حلوي"، وأضاف مداعبا "حتى لا تنطبق عليه المقولة المشهورة طلع من المولد بدون حمص"، وأوضح أنهم يتماشون في الأسعار ولا يتوقفون عندها كثيرا لكل من يصل خيمتهم خاصة إن كان يصطحب معه أطفال وقال "الموسم للرحمة والتآسي بكرم وأخلاق من نحتفي به سيد الخلق أجمعين"، مُشيرا إلى أنهم غالبا ما يوزعون جزءا كبيرا من حلوياتهم "المكسرة" مجانا للذين لا يمتلكون ثمنها.
الحركة الدعوية
تنشط الحركة الدعوية خلال احتفالات المولد ولا تقتصر فقط على الطرق الصوفية والجوانب الدينية البحتة، حيث يشارك عدد من منظمات المجتمع المدني التي تعمل في تخصصات مختلفة مثل مكافحة الإيدز وختان الإناث وغيرها من القضايا المجتمعية لتعريف المحتفلين بأهدافها.
وشهد المولد خلال المواسم الماضية عادات دخيلة لم يعرفها السودان من قبل، حيث حدثت اشتباكات بين "المتوصفة" وبعض الجماعات "الدينية المُتشددة" التي ترى أن الاحتفال بالمولد "بدعة" وعمدت على تخريب بعض خيام المتصوفة ما أدى إلى اشتباكات بالأيدي و"العصي" بين الطرفين استدعي تدخل الشرطة، وخلافا للعامين الماضيين لم تشهد احتفالات المولد أي اشتباكات ما بين الطرق الصوفية وجماعة أنصار السنة المحمدية حتى الآن بفضل انتشار نقاط الشرطة المكثف في ساحات المولد المختلفة لمنع الاحتكاكات.
أرسل تعليقك