بين أزقة بلدة خزاعة، وعلى بعد عشرات الأمتار من قناصة الاحتلال الإسرائيلي، الذي اغتال الشهيدة رزان النجار، تعالت الزغاريد، ورفرفت أعلام فلسطين، وامتلأ المكان باللون الأبيض الذي ارتدته "ملاك الرحمة"، وبدأت مراسم التشييع من المستشفى الأوروبي، في خانيونس جنوب قطاع غزة، وصولًا إلى مخيم العودة شرق بلدة خزاعة، وإلقاء نظرة الوداع عليها في بيتها.
وأمام منزلها، والحارة التي تقطن بها، احتشد مئات النسوة مستقبلات الشهيدة، مرددات شعارات تطالب بالرد القاسي على اغتيال "صاحبة الإنسانية"، ومن الشعارات التي رردتها النسوة "يا رزان ارتاحي ارتاحي، الجنة بتستناكي، يا رزان ودعناكي، الجنة بتستناك، زفوا رزان لأمها الثورة بتجري في دمها"، معلنات أن هذا اليوم هو يوم زفافها.
وقالت خالة الشهيدة "اليوم هو عرسك يا فلسطين، رزان ملاك الرحمة وملاك فلسطين، والثوب الأبيض هو عرسها الحقيقي"، وأضافت "إحنا ودعناك اليوم يا رزان"، مطالبة الفصائل الفلسطينية بأخذ الثأر لدماء الشهداء، موضحة أن رزان كانت تعالج المصابين، "طخوها بدم بارد، ولم تكن تطلق النار عليهم ولم تمسك صاروخ، بل كانت تسعف الجرحى"، مشددة على أن مسيرة العودة مستمرة، وأن غزة ستكون مقبرة للاحتلال، وفق قولها.
امتازت بلباسها الأبيض، وخفة حركتها ورشاقتها، حتى اختطفت عدسات المصورين الصحافيين، بينما كانت بصمتها واضحة في إسعاف عشرات بل مئات المصابين، لا سيما من يصابوا باختناق بسبب استنشاق الغاز المسيل للدموع، لكن ورغم عملها الإنساني الخالص، وارتدائها "البالطو" الأبيض كعلامة واضحة لمهنتها، التي تكفل القانون الدولي والمحلي بحمايتها، إلا أن قناصة الاحتلال تعمدوا إصابتها برصاصة متفجرة، اخترقت صدرها، وأردتها شهيدة.
يوم الجمعة، كانت تمارس مهمتها باقتدار وشجاعة، تتقدم الصفوف للوصول لأي مصاب ملقى على الأرض قرب خط التحديد، دون أن تدري أن ذلك القناص يغمض عين ويفتح أخرى، ويوجه فوهة بندقيته ناحيتها، انتظر حتى تمكن منها وضغط على الزناد، فخرت مغشية ولفظت أنفاسها الأخيرة على تراب بلدة خزاعة، التي ولدت فيها وأحبتها، وأحبها ناسها الطيبون.
رحلة شجاع
رزان خريجة تمريض، اختارت منذ اليوم الأول من انطلاق مسيرات العودة أن تنحاز لآلام الجرحى وآهات المصابين، ورغم أنها لا تعمل ضمن طواقم وزارة الصحة، إلا أنها ارتدت "البالطو" الأبيض، واصطحبت ما تيسر من معدات وأدوات الإسعاف، وقررت أن تتطوع وتسخر علمها لمساعدة المصابين.
مرت الأيام ورزان مستمرة في عملها، تعرضت لإطلاق النار مرات ومرات، واستنشقت الغاز المسيل للدموع وتعرضت للإغماء أكثر من مرة، لكن هذا لم يفتت من عضدها، أو يدفعها للتراجع، ورغم ما يمثله عملها من مخاطر إلا أن عائلتها كانت تشجعها.
قتل متعمد
وأكد متظاهرون أن قتل الممرضة النجار كان متعمدًا، فهي منذ اندلاع التظاهرات شرق بلدة خزاعة نهار الجمعة، كانت تمتاز بشجاعة كبيرة، ونجحت في تقديم الإسعافات للمصابين، وهذا دفع الاحتلال لتصفيتها جسديًا، وقال الشاب أحمد شاكر، إن النجار كانت تتوسط المتظاهرين، مرتدية ثوب أبيض، لحظة تعرضها لرصاصة متفجرة، أطلقها قناص إسرائيلي كان يتوارى خلف تلة رملية داخل خط التحديد.
وأوضح شاكر، لم نصدق أنها أصيبت، ظنناها في البداية سقطت نتيجة تدحرج قديمها، لكن حين شاهدنا الدماء تسيل، عرفنا أنهم قاموا بتصفيتها، فتوجهنا نحوها مسرعين، وجرى نقلها بوساطة سيارة إسعاف، إلى أن جاء خبر استشهادها.
وعمت حالة من الغضب أواسط الشبان والمتظاهرين، بعد شيوع نبأ استشهاد الممرضة رزان، وهتف المئات منهم، "بالروح بالدم نفديك يا رزان"، وتقدموا ناحية السياج الفاصل شرق محافظة خان يونس، وبدؤوا بقصه، وأشعلوا التظاهرات في المنطقة.
وكانت "الأيام"، أعدت تقريرًا مطولًا عن النجار بتاريخ الرابع من نيسان الماضي، وأطلقت عليها حين ذاك "ملاك الرحمة"، وتناول التقرير جوانب من شخصية رزان الهادئة، وكيف قررت التطوع لمساعدة المصابين.
وكان أبرز ما ذكرته النجار في سياق التقرير ".. ما أقوم به هو مقاومة للاحتلال، لكن من نوع آخر، فهناك من يقاوم بالحجر والبندقية، والقلم والريشة، ولكنني أقاوم بإسعاف الجرحى، .. أنا لا أنتظر قدوم المصاب للنقطة الطبية كي أساعده، فهناك من المصابين من هم بحاجة لإسعافهم فور تعرضهم للإصابة، لذلك أحرص على أن أكون أكثر قربًا من نقاط المواجهة، لأكون الأسرع وصولًا للمصابين".
إدانات
من جهة أخرى، أدان وزير الصحة د. جواد عواد، قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي المسعفة رزان أشرف النجار "20 عامًا" أثناء عملها في انقاذ ورعاية الجرحى شرق خان يونس، وأضاف في بيان صحافي، مساء الجمعة، أن قتل جيش الاحتلال للمسعفة برصاصة "حي" في الصدر وبشكل متعمد يعد جريمة حرب، وإصرار لدى هذا الجيش على خرق كل المعاهدات الدولية والاتفاقيات التي تدعو إلى حماية المسعفين أوقات النزاعات.
وأشار د. عواد إلى أن الشهيدة رزان دفعت حياتها ثمنًا لعلاج وإسعاف أبناء شعبها، حيث كانت أصيبت أكثر من مرة خلال مسيرات العودة، ولم يمنعها هذا الأمر في مواصلة مشوارها لأداء رسالتها الطبية السامية، فهي لم تغادر ميدان عملها الاسعافي التطوعي خلال مسيرة العودة حتى قدمت نفسها شهيدة اليوم شرق خانيونس.
ودعا وزير الصحة المجتمع الدولي والمؤسسات الأممية والدولية والحقوقية للتدخل لحماية شعبنا، مؤكدًا أنه لا توجد أي بقعة آمنة لأطفالنا ونسائنا وشيوخنا لا في الضفة الغربية ولا في قطاع غزة، فجيش الاحتلال استباح كل شيء بما في ذلك المستشفيات ودور العبادة والبيوت.
من جهته, قال وزير العدل، علي أبو دياك، إن الشهيدة المسعفة المتطوعة رزان النجار شهيدة الأمس وشاهدة الأمس على الجرائم البشعة التي ارتكبها الاحتلال بحق أبناء شعبنا على أبواب الحصار الجائر في غزة، وأضاف أن جيش الاحتلال الاسرائيلي قد أضاف إلى سجله الإجرامي وملفات جرائمه البشعة بحق شعبنا جريمة قتل جديدة مع سبق الإصرار والترصد بإطلاق الرصاص القاتل على المسعفة رزان النجار، لتضاف هذه الجريمة البشعة إلى سلسلة الجرائم التي ارتكبت بحق أبناء شعبنا، ضمن سياسة الإرهاب المنظم وإرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل.
ودعا أبو دياك المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة القادة والمسؤولين والضباط والجنود وكافة مرتكبي الجرائم الاسرائيليين لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم عدوان موثقة بحق أبناء شعبنا، مضيفًا بأن جريمة قنص وقتل المسعفة المبتدئة رزان النجار يضيف صفعة أخرى للقانون الدولي والمواثيق والاتفاقيات والمعاهدات والمنظمات الدولية ويضيف وصمة عار جديدة لكل الساكتين عن الحق ولكل من يجاملون الاحتلال على حساب دم شعبنا الفلسطيني.
وطالب أبو دياك أبناء شعبنا بالوحدة وإنهاء الانقسام البغيض والوقوف صفًا واحدًا موحدًا في ظل قيادة رئيس دولة فلسطين في معركة الثبات على الحق والشرعية والمشروع الوطني ومواجهة العدوان والإرهاب الإسرائيلي، ومواجهة الجريمة المتواصلة لتهويد القدس وطمس هويتها وتاريخها العربي الفلسطيني، مؤكدًا أن شعبنا لن يقبل بأي صفقة مشبوهة أو حل بديل عن جلاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية الواحدة وعاصمتها القدس الشريف.
وقال جيش الاحتلال السبت، إنه "يحقق في مقتل مسعفة فلسطينية على يد قوات إسرائيلية على ما يبدو أثناء احتجاجات على الحدود مع قطاع غزة الجمعة، وزعم أن مسلحين فلسطينيين كانوا هاجموا قواته على طول الحدود بالرصاص وقنبلة يدوية، وفي بيان مكتوب السبت، أكد أنه سيحقق في وفاة النجار.
وعادة ما تنتهي التحقيقات العسكرية في استشهاد أو إصابة فلسطينيين بعدم إدانة الجنود الإسرائيليين، بدعوى أنهم تصرفوا بناء على التعليمات، وفي حالة الإدانة بارتكاب خطأ، يعاقب الجنود بأخف عقوبة متاحة، كما حصل مع الجندي اليئور ازاريا الذي أطلق النار على رأس المواطن عبدالفتاح الشريف الذي كان مصابًا بالرصاص وملقى على الأرض في مدينة الخليل، وصدر عليه حكم بالسجن 18 شهرًا، تم تخفيضها إلى 14 شهرًا في وقت لاحق.
أرسل تعليقك