بناية أثرية لا يميزها عن غيرها في شارع أمير الجيوش بمنطقة الجمالية التاريخية بمصر، سوى لافتة ملونة مُعلّقة على الواجهة، مكتوب عليها: "حمام بخار بلدي.. رجال وسيدات"، إلى جانب لافتة أخرى صغيرة تحمل الرقم 40.
كان هذا هو حمام "مرجوش" التاريخي أو "الملاطيلي" كما يعرفه العامة في مصر منذ مئات السنين، والذي ذاع صيته أكثر من أي وقت مضى بعد عرض فيلم "حمام الملاطيلي" عام 1973.
وحمَّام "مرجوش" الصامد أمام كل عوامل الفناء، منذ نحو 600 عام، يعد واحدًا من حمَّامات القاهرة الفريدة، التي حافظت على وجودها برغم تغيّر نمط الحياة، وطغيان المراكز الصحية الحديثة.حكايات الملاطيلي
قام بجولة في حمَّام الملاطيلي، واستمع إلى الحاج زينهم أحمد عبدالعزيز، مالك الحمام، الذي روى حكاية عائلته مع الحمام، التي بدأت منذ نحو 130 عام، عندما جاءت من تركيا إلى مصر.
ويقول عبد العزيز إن أسرته استأجرت حمام "مرجوش" عام 1892، وكانت أول رخصة حصلوا عليها للحمام في عام 1902.
وعن الزمن الجميل يتذكر الحاج زينهم (78 عامًا) فترة ما قبل ثورة يوليو عندما كان يشاهد في طفولته أمين بك المهدي العواد المصري الشهير، والموسيقار والفنان مدحت عاصم، يأتون إلى الحمام مع أصدقائهم ويستأجرونه لحسابهم، إذ كانوا يقومون بالعزف على العود أثناء تمضيّة وقتهم بالحمَّام.
ويشير عبد العزيز في معرض حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية" إلى أنه خلال فترات لاحقة، كان يتردد على الحمام عدد من المطربين والمشاهير مثل المطرب كارم محمود، وعازف الساكسفون الشهر سمير سرور، بينما كان يأتي إلى حمام السيدات الفنانة عائشة الكيلاني، كما أتت إليه الفنانة ليلى علوي.ويربط الرجل بين تراجع حضور الحمَّامات العامة، وتطور الحياة، فيقول: "قديمًا لم تكن المياه قد وصلت البيوت بعد، وكان حينها يستحم جميع الناس في الحمَّامات العامة، ومع تطور الحياة تم مد المياه إلى البيوت، وبدأ الإقبال يتراجع على الحمام شيئًا فشيء، خاصة مع ظهور المراكز الحديثة".
ويتمنى الحاج زينهم عودة الحمَّامات الشعبية إلى سابق عهدها، وهي الأمنية ذاتها التي يحملها نجله مصطفى الذي يقول إنه يعشق هذه المهنة التي ورثها عن أسرته ويتمنى أن تعود كما كانت من قبل.
وفي حديثه لموقعنا، يشير مصطفى الذي يشارك والده إدارة الحمَّام إلى أن كثيرا من الزبائن اليوم يأتون إلى الحمَّام، وخاصة في الأعراس، إضافة إلى بعض مرضى الروماتيزم الذي يحتاجون للاستشفاء، فيأتون للمكوث في مغطس الماء الساخن.
تاريخ قديم وإرث اجتماعي
ما أن تدلف عبر الممر الضيق داخل مبنى حمَّام الملاطيلي، حتى تقفز إلى رأسك حكايات ألف ليلة وليلة، التي كان كثيرًا منها يدور داخل مثل هذه الحمَّامات، حيث اعتاد أن يأتي إليه الملوك والأمراء وكافة طوائف الشعب على مر العصور.
كانت الحمَّامات العامة بمثابة مركز لصناعة ونشر الأخبار في المجتمع القاهري حتى منتصف القرن الماضي، إلى جانب وظيفتها الرئيسية في الحفاظ على النظافة والصحة العامة.
وارتبطت الحمَّامات العامة في التراث المصري بعديد الحكايات والمأثورات الشعبية، كالمثل الشعبي الشهير: "اللي اختشوا ماتوا" والذي يستمد أصله من حريق وقع في حمام إينال، فماتت الفتيات التي تحرجن من الفرار وهن عاريات.ولحمَّام "الملاطيلي" تاريخ قديم، فبحسب ما ذكره المؤرخون: المقريزي والبكري، فإن حمام "الملاطيلي" بُني في نهاية عصر المماليك، وأن عمره لا يقل عن 600 عام، والحمَّام مسجل باعتباره أثرا، تحت رقم 592 لسنة 1959.
رحلة في الحمَّام
وعن طبيعة الخدمة التي تقدمها الحمَّامات العامة للمستحم، أشار المؤرخ المعاصر قاسم عبده قاسم إلى أن الحمَّامات العامة تتكون من عدة حجرات، منها حجرة تسمى بالمسلخ، مكسوة بالرخام، وبها مصاطب من الرخام، وفيها ينزع المستحمون ملابسهم، ويستريحون قبل الدخول إلى "بيت أولوبحسب الدراسة التي أعدها قاسم، يعتبر "بيت أول" أولى الغرف الدافئة بالحمام، كما تعد بمثابة غرفة الانتظار؛ وفيها مصطبتان وأرضية من الرخام، وفي هذه الغرفة يلف المستحم نفسه بمنشفة تصل إلى الركبتين؛ فإذا حان دوره دخل غرفة أخرى أشد سخونة تسمى "بيت حرارة".
وكانت الحمَّامات قديمًا تعتمد على ساقية لإمدادها بالمياه، وبحسب العديد من المصادر كان یُلحق بالحمام في الغالب بئر لإمداده بالمیاه.
وفي "بيت حرارة"، يوجد مغطس ممتلئ بماء ساخن يتصاعد منه البخار، وهنا يتفصد العرق من جسد المستحم، ثم يقوم "الحمَّامي" بتكييس وتدليك جسد المستحم وفرك جلده لإزالة ما قد يكون قد علق فيه من الوسخ حتى تتفتح مسام الجلد تمامافي النهاية يعود المستحم إلى "بيت أول"، ويمكث به بعض الوقت حتى تتوازن درجة حرارة جسمه، ولا يتعرض للهواء البارد في الخارج إذا غادر الحمام مباشرة.
تأثير اجتماعي وتاريخ ممتد
انتشرت الحمَّامات العامة المعروفة في أيامنا هذه بداية من الفتح الإسلامي، حیث سمى المصریون أول حمَّام بني في هذه الفترة بمدینة الفسطاط بـ"حمام الفأر" نظرًا لصغر حجمه عن تلك الحمامَّات كبيرة الحجم التي عرفها المصريون قبل الفتح الإسلامي، حيث كانت تتألف عادة من ثلاثة طوابق متصلة.
وبحسب خطط المقريزي، فإن الخليفة الفاطمي العزيز بالله يعد أول من بنى الحمَّامات العامة بالقاهرة وقدرت مصادر عديدة عددها في هذه الفترة، إلا أن الرقم الذي رجحه المؤرخ المعاصر قاسم عبده قاسم نقلًا عن المقريزي يصل إلى 80 حماما في هذا الوقت.
وفي أيامنا هذه يتبقى عدد محدود من الحمامَّات العامة؛ بعضها لا يزال يعمل، والبعض الآخر حُفظ كأثر مهمل.
ومن أشهر الحمامات المتبقية إلى جانب حمام الملاطيلي في القاهرة: حمام السلطان إينال وحمام السكرية وحمام بشتاك وحمام المؤيد وحمام الشرايبي وحمام الدود وحمام سنان باشا ببولاق.
وفي الأقاليم، يوجد حمام عزوز بمدينة رشيد في محافظة البحيرة، شمالي مصر، وحمام سمنود بمحافظة الغربية بوسط الدلتا، وحمام علي بك بجرجا بمحافظة سوهاج جنوبي مصر.
قد يهمك ايضاً:
أرسل تعليقك