سواء كانت تربطنا بهم قرابة الدم من عدمه، فلم يفارقنا أحباؤنا أبدًا طيلة الشهور العديدة الماضية. كان بعضهم برفقتنا بصورة حقيقية، رفقة الكتف بالكتف، يحتمون داخل المنازل، ويعززون من المعنويات، ويشدون من روابط القرابة والألفة التي تجمع بيننا. أو لعلهم يرافقوننا من على بُعد، في شوق وحنين، عبر المسافات البعيدة، وربما المحيطات التي تفصل بيننا. وهناك أحبة آخرون لم يعودوا بين الأحياء، وربما كان غيابهم عنّا ناجمًا عن الجائحة القاسية الراهنة، مخلّفين وراءهم فراغًا كبيرًا وموجعًا ومجددًا الشكوك بأنهم قد ضاعوا بلا جدوى.
يدور معرض “ديفيد هوكني: الرسم من الحياة” المؤثر للغاية والجاذب لأعين المشاهدين حول الأحبة والطبيعة المعقدة المتّسمة بالتغيير المستمر في العلاقات والأشخاص الذين ينسجونها. ويتخذ المعرض موقعه لدى مكتبة ومتحف “مورغان”، حيث تنظمه السيدة سارة هاوغيت من “ناشونال بورتريه غاليري” (معرض الصور الوطني) في العاصمة لندن، وتشرف عليه السيدة إيزابيل ديرفو، لدى متحف “مورغان”. ولقد جرى تخصيص المعرض للصور والتصاوير الذاتية التي يبلغ عددها 125 صورة كلها على الورق. وهو يعكس أعمال الفنان –كالمعتاد– بكامل طاقته من دون توقف، وعلى مختلف المقاييس فيما لا يقل عن عشرة أشكال متنوعة من الرسم (بالقلم الرصاص، والحبر، والفحم، وخلافه)، وأعمال الطباعة (الطباعة الحجرية، والحفر، والنقش باستخدام الصباغة المائية)، فضلًا عن الاستعانة بمستقطبات الصور الفورية وحاسوب آيباد اللوحي. إنه معرض أبعد ما يكون عن مجرد عرض الرسومات الشيقة للسيد ديفيد هوكني، بل إنه يمثل الانفتاح على التقانات الحديثة في العمل مع احترام أخلاقيات الفن باستمرار.
يعكس العنوان الفرعي للمعرض “الرسم من الحياة” مَيْل الفنان إلى حمل كراسة الرسم على الدوام ومواصلة العمل من واقع الحياة، مع محاولة تسجيل ما تراه عيناه أمامه. كما يشير العنوان إلى لمحات السيرة الذاتية التي يتسم بها مشروعه الفني. إنه يرسم من حياته الخاصة، ويصور الأشخاص الذين يعرفهم، ويهتم بشؤونهم، والمناظر الطبيعية من حوله، والمنال التي يسكن فيها بنفسه.
وفي حين أن المعرض غامر بالكثير من المواد، إلا أنه يركز بصفة كبيرة وخاصة على العلاقات العائلية الدافئة، إذ لا يصور المعرض أكثر من خمس شخصيات فقط: السيد هوكني، ووالدته، وثلاثة من المقربين إليه ممن عرفهم، وسافر معهم، ورسم صورهم في غير مناسبة على مدار خمسة عقود تقريبًا: غريغوري إيفانز، صديقه المقرب للغاية، والأمين السابق لأعماله، ثم السيدة سيليا بيرتويل مصممة المنسوجات، وأخيرًا السيد موريس باين المسؤول الأول عن طباعة أعماله، والذي يرتبط مع السيد ديفيد هوكني بعلاقة عمل وصداقة منذ بداية حياته المهنية.
إن كانت الصداقة من بين التيمات الرئيسية في أعمال ذلك المعرض، وكانت التيمة الأخرى تتمثل في براعة الرسم بمختلف المواد والأساليب المتنوعة، فإن الوقت في حد ذاته هو التيمة البارزة الثالثة. ينقسم معرص الصور إلى خمسة فصول –السير الذاتية الموجزة بلا كلمات معبرة – وفيه نرى أصدقاء السيد هوكني في حالات مزاجية متنوعة وبيئات مختلفة مع تقدمهم في العمر والحياة. تمامًا كما هو الحال مع أنفسنا، إذ يمكننا ملاحظة مرور الوقت على وجوههميحاول السيد هوكني توثيق حياته بصورة أساسية على النحو الذي تشابكت وارتبطت فيه مع بقية الأشخاص. ربما يحمل هذا التصور معاني حرفية في وقت من
الأوقات، كما هو الحال تمامًا في الرسم بأقلام الرصاص الملونة والمبهجة لصورة تحمل عنوان “دراسة لوالدي ولنفسي”، والتي انتهى منها داخل غرفة أحد الفنادق في العاصمة الفرنسية باريس في عام 1974. وفيها، يظهر وجه الفنان –المنعكس على مرآة منضدة التزين، بين وجهي والديه، متخذًا وضع الجلوس قبالة صف من الستائر الصفراء الداكنة. كان والده مهندمًا وأنيقًا للغاية في ملابسه، في حين كان فستان والدته واسعًا وفضفاضًا في تمدد وارتجال غير مقصود، مما كان مناسبًا تمامًا كي يعكس
شخصيتها الأكثر دفئًا، واحتواءً، وتشجيعًا لأعمال ابنها. وترجع واحدة من أكثر صورها المؤثرة إلى يوم الأحد الموافق 19 فبراير (شباط) 1978، وهو يوم وفاة زوجها الحبيب. رُسمت تلك الصورة الحزينة بالحبر البُني الداكن (وقد كان اللون المفضل للفنان رامبرانت)، وكانت الوالدة ترتدي معطفًا وعلى رأسها قبعة، مع نظرات مشتتة في الفراغ تعكس هدوءًا عميقًا في نفسها، كما لو كانت تحاول تقييم المرحلة التالية من حياتها.
يقدم الجدار الأول في المعرض لمحة جيدة عن موهبة السيد هوكني المبكرة والتزامه بالفنون من واقع أعمال ترجع إلى خمسينات القرن الماضي من التي لا أعتقد أنها رأت النور في كثير من المناسبات في هذا البلد. ومن المثير للإعجاب بصورة خاصة تلك الصورة الذاتية من عام 1954، وهو العام الذي بلغ فيه السيد هوكني عامه السابع عشر. ومن المفهوم أنه كان يواصل دراسته في مدرسة برادفورد للفنون في مقاطعة يوركشاير في إنجلترا التي شهدت مولده في عام 1937، ولكنها الصورة التي لا تزال تثير فضول كل من يطالعها حول السبيل الحقيقي إلى تصويرها. إذ تتجمع الصورة في غالب أمرها من
قصاصات صغيرة وملونة من صفحات المجلات اللامعة المصقولة والملصقة بدورها على ورق الجرائد، ويظهر فيها الفنان الشاب وهو يحاول سبر أغوار ذاته شاخصًا بناظريه إلينا في اهتمام. وتبدو رباطة جأشه وثباته واضحين للغاية في صورته مع نظارته الكبيرة وإطلالته برأسه نحو الأمام –حتى مع الظلال الباهتة التي تحوم حولها. والألوان الباهتة مثيرة للذهول في حد ذاتها، مما يثبت مدى أحقية السيد هوكني في تعزيز جاذبيته العفوية من خلال معالجة لون شعره على طريقة آندي ورهول من عام 1961 في أولى رحلاته المعروفة إلى مدينة نيويورك آنذاك.
تتناول الأجزاء المختلطة من الألوان التي تحدد المعطف الأزرق للفنان، والسترة ذات اللون الأزرق البحري، والوشاح الأحمر مع ربطة العنق الصفراء، المناخ التكعيبي متعدد الأوجه لمستقطبات بولارويد في تلك الصورة التي ترجع إلى ثمانينات القرن الماضي. والذكاء المرئي في أعماله واضح للغاية: فاللون الأحمر في الوشاح يشتمل على أجزاء صغيرة من وشاح أحمر مجعّد بطريقة أنيقة، كما لو كان مقتطعًا من أحد الإعلانات. وفي تحول في الوسائط، فإنه يُشار إلى النمط المربع بصورة عرضية لياقة القميص بشريط رمادي مصقول مثبّت على ورق أبيض مقطوع.
تشكل الأقسام المخصصة لأصدقاء السيد هوكني الجوهر الحقيقي للمعرض. حيث تُظهر تصاوير غريغوري إيفانز في وفرة من الصور ذات اللمحة الروائية من حيث الأسلوب، والوسط المحيط، والمظهر دائم التغير. وتبدأ صوره بجمال صبياني الطالع مع شعر طويل مجعد (مصور بلطف يعكس أسلوب هنري ماتيس الفرنسي ببراعة)، ولا يكاد يمكن التعرف عليه كشخص أكبر سنًا، وأثقل ظلًا، وأكثر عبوسًا من خلال النظارات التي يعتمرها على وجهه والمصوَّرة في الرسم بالحبر الكبير في نهاية المعرض.
تضيء السيدة سيليا بيرتويل الأنيقة –وهي تعد مصدر إلهام السيد ديفيد هوكني– المعرض بهدوئها الأخّاذ، وعينيها المكحلتين، وإحساسها الراقي بالموضة. وتتغامق روحها في مرة واحدة فقط عبر المطبوعة الحجرية الكبيرة من عام 1973 والتي تتنكر في شكل صورة مرسومة بالحبر، فيما تعد واحدة من أفضل الصور في المعرض على الإطلاق.
ينبغي للسيد موريس باين –وهو خبير الطباعة الذي تعاون مع السيد هوكني في العديد من أعماله ومطبوعاته– أن يكون موضع أكثر التيمات ثباتًا في أعمال السيد ديفيد هوكني. بالميل والاقتضاب، مع بعض التشابه الواضح لأعمال مارسيل دو شامب، فإنه يغيّر بدرجة طفيفة من وضعيته أو تعبيرات وجهه المدروسة، والتي تجعل من براعة السيد هوكني أمرًا أكثر وضوحًا. ويمنح النقش الكبير والمكثف من عام 1998 توصيفًا رائعًا لطريقة الوسيط الخاصة به من خلال غرس اللون الأسود مع الضوء المركب.
وفي خاتمة المطاف، يرجع هذا العرض المفعم بالحيوية إلى صور الفنان الذاتية، والتي غالبًا ما تكتنف ذاته في أثناء الرسم، مع نظرة حادة وصارمة للغاية، إلى كل ما هو أمام ناظريه. ويقدم الجدار الأخير في المعرض ثمانية رسومات ضخمة بالحبر –وأحيانا بالأكريليك– لأصدقائه الثلاثة القدامى. ولقد اعتنق كل منهم شيخوخته الذاتية بطريقة مختلفة. ويعكس وجه السيدة سيليا بيرتويل الأكثر ازدهارًا نبع الفضول الذي لا ينضب أبدًا لدى الفنان الكبير. ومع الاقتراب من الرسومات من حيث تأثيرها على المشاهد، فإن الصور الثماني الأخيرة تشهد في وضوح على طموح السيد ديفيد هوكني غير المنقوص للوسيط صاحب الحلقة المركزية في جلّ إنجازاته الفنية. كما أنها تشهد مرة أخرى على أعباء المحبة في حياتنا والدور البارع للفنون في الإحساس بهذه المحبة من حولنا
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
الرسم بأقراص الدواء
فنانة ليبية توضّح أن الحرب تلهب مشاعر المبدعين الرسم بالنار.
أرسل تعليقك