احتفل بيت المدى بالتزامن مع انتصارات القوات العراقية في عمليات تحرير الموصل، واقتراب إعلان النصر الكبير على ما يسمى بتنظيم "داعش"، في جلسة فنية للمطرب الملا "عثمان الموصلي" ،" مؤكداً " أن هذه الجلسة تبين الجانب الإبداعي الموصلي الذي تمثل في الموسيقار الكبير الملا عثمان الموصلي".
وعرض عبد الرزاق جانباً من حياة الموصلي على الحاضرين، قائلا "ولد الملا عثمان الموصلي في مدينة الموصل القديمة، وهو ابن أسرة بسيطة ،إذ كان أبوه سقّاءً، وقد فقد بصره ولم يزل طفلاً، بعد إصابته بمرض الجدري". وعن صفات الموصلي يقول الباحث رفعت عبد الرزاق " عُرف الموصلي بذكائه، وهو في كتاتيب المدينة القديمة، وقد شغف بالاناشيد الدينية، والمناقب النبوية، التي كانت تجري وفق المقامات والانغام الشهيرة في العراق".
ومن خلال شغفه بالغناء، انطلق الموصلي في مسيرته، وبدأ يُلحّن النصوص، ويذكر عبد الرزاق، أن الموصلي فاق الآخرين في مجال الموسيقى والغناء، وذاع صيته بين الناس". وهنا نستشهد ماذا كان حالهُ لو رأى الموصل على هذا الحال اليوم؟ هذا الرجل الذي تعلمت منه الأجيال الموسيقى، وتربى في مدرسته كبار الموسيقيين العراقيين، وارتشفوا من منابع علمه، وجمال وعذوبة ألحانه، ليس على الصعيد المحلي فقط بل والعربي ايضاً، فألحانه وكلماته لاتزال تُغنّى حتى اليوم، بعد أن تناقلها أهم المطربين والملحنين العراقيين والعرب، وغيروا في بعضها، واضافوا إلى الآخر، وقدموها بصور مختلفة ولهجات مختلفة.
ويكون خراب الموصل اليوم، فكرًا قبل أن نشير إلى خرابها العمراني، بحاجة منا اليوم لاستعادة رموزها الثقافية والفنية والادبية، لنُحييها في نفوس وذاكرة أبنائها الذين باتوا يعيشون اليوم حالة من التيه، والانشطار وشيء من الازدواجية، فهل هم ابناء هذا اليوم، ألا يزالون يُثمنون الفن والادب، أم انها صارت عدوّتهم بعد أن عزز الفكر الإرهابي جانباً من أوتاده في نفوسهم؟ هذا القلق الذي يعيشه المجتمع العراقي اليوم حول الموصل ما بعد داعش من هي وكيف ستكون؟ إلى أي بُنية تنتمي أفكار أبنائها، وإلى أية تشظيات مضت هذه الافكار، وتلك العقول، لهذا نجد أن من واجب المثقف العراقي أن يستعيد ثقافة الموصل من أجل إحيائها في نفوس ابناء المدينة من جديد.
وأضاف "عسى أن نخلق جيلاً جديداً في هذه المدينة بفكر جديد، أو نُرمِّم ما خربه الفكر الإرهابي، لهذا بادرت مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون لإقامة حفلٍ خاص بانتصارات القوات المسلحة العراقية في معارك تحرير مدينة الموصل الحدباء، مستعيدين من خلال هذا الحفل الملّا عثمان الموصلي بصفته من أهم وأبرز الشخصيات الموصلية، الذي يعد رائداً في مجال الغناء والموسيقى والمقام الطربي العراقي، أُقيم الحفل في بيت المدى في شارع المتنبي صباح يوم أمس الجمعة، بحضور واسع للمثقفين والموسيقيين والإعلاميين".
وسافر الموصلي إلى اسطنبول، وحظي بمنزلة محترمة لدى السلطان عبد الحميد الثاني، ثم زار مصر وأسس فيها مجلة أدبية باسم " المعارف" ثم انتقل إلى دمشق والتقى بالسيد درويش الذي كان برفقة إحدى الفرق الموسيقية " فرقة أمين عطا الله" فلازم درويش الموصلي ملازمة الظل لصاحبه، وتأثر به كثيراً، وبهذا كانت " أغلب ألحان السيد درويش بالاساس تعود للموصلي " كما ذكر الباحث رفعت عبد الرزاق مثل " زوروني كلّ سنة مرة، و عالروزنة عالروزنة، وغيرها." وحتى أوائل القرن الماضي استقر الموصلي وعائلته في بغداد، وكانت خطبه النارية وقصائده تحرّض الجماهير على الثورة وطلب الاستقلال، حيث اندلعت على إثرها ثورة العشرين، توفي في بغداد 1923، في غرفته بجامع الخفافين، ودفن في مقبرة الغزالي.
والملا عثمان الموصلي مدرسة أسست للغناء العربي وليس العراقي فحسب، هذا ما ذكره الباحث الموسيقي، مدير معهد الفنون الموسيقية حيدر شاكر الحيدر، الذي أضاف " أسس الملا عثمان الموصلي منذ زمن طويل للموسيقى والغناء، وإن أردنا الإنصاف سنجده مؤسساً للموسيقى العربية والعراقية، من خلال ما ألفه من أشعار، وما قام بتلحينه من موسيقى".
وتابع الحيدر قائلا " بإمكاننا مراجعة الأغاني العربية والعراقية التي تردد اليوم تراثياً وفولكلورياً سنجدها غُنيت من قبل الموصلي مثل أغنية زروني في السنة مرّة، وفوق النخل ، لغة العرب اذكرينا، يا ام العيون السود، طلعت يا محلى نورها التي نُسبت للسيد درويش، آه يا حلو يا مسليني". وأكد الحيدر قائلا " الملا عثمان الموصلي يُشكل اليوم مدرسة، وعلى جميع الفنانين الموسيقيين والمطربين أن يرتشفوا من منابعها، لأنها قدمت أعظم الموسيقى وأهمها، وأجمل أنواع الكلمات".
ومع انتصارات القوات العراقية في الموصل وتحرير هذه المدينة من الفكر الرجعي والإرهابي، يضيف الحيدر " إن استعادة رموز موصيلية مؤثرة في المشهد العربي والعراقي مثل الموصلي أمر مهم، فهذا بدوره سيعمل على إحياء الثقافة والفن الأصيل الموصلي في أرواح سكان تلك المدينة."
والحديث عن الموصلي ذو شجون كما يذكر الباحث الموسيقي محمد لقمان مُعللّا ذلك لأنه يشكل مرحلة تأريخية مهمة من تاريخ الحركة الموسيقية والاجتماعية والثقافية والسياسية في العراق، ويقول لقمان "خاض الموصلي كل مفاصل الحياة، ففي مجال القراءات حاز على القراءات العشرة في مصر، وتعلم المقام العراقي من خلال زيارته إلى بغداد حتى أصبح عالماً ومحدثاً فيه، وفي مجال التلحين كانت ألحانه واسعة حيث تشير المصادر إلى أن الكثير من الأغاني تنسب إليه وهي اكثرها موشحات دينية ،ولكن الألحان حُوِّلت من قبل ملحنين ومطربين إلى أغانٍ دنيوية من ضمنها شمس الشموسة وأغانٍ كثيرة أخرى."
ولم يكتفِ الموصلي بالجانب الموسيقي، بل عمل في مجالات سياسية وصحافية اخرى، ويذكر الباحث محمد لقمان أن " الموصلي عمل في الجانب السياسي، حيث قام الخديوي في اسطنبول بتكليفه بمهمة السفير للمصالحة مع أوروبا وأصبح له شأن في هذا المجال ،لأنه كان صاحب كلام وكلمة ومنطق، وفي مجال الصحافة أصدر جريدة في بغداد وفي مجال السياسة كان محرضا في ثورة العشرين و له أعمال كثيرة في مجال الإنشاد الديني".
ومدرسة الموصلي عاشت بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن الماضي وهي التي خرّجت الكثير من الأسماء الكبيرة في مجال الموسيقى والفنون أمثال عبد الستار الطيار، والملا مهدي العزاوي، واصبح له مكانة ليس في العراق والمنطقة العربية بل في العالم فهو من الشخصيات التي يشار لها بالبنان، و خير من كتب عن هذه الشخصية كان الكاتب د. عادل البكري.
وأجيال مهمة في الغناء العربي والعراقي تربت على اغنيات الموصلي، وقد كانت ألحانه درساً لهم، الفنان والمطرب مجدي حسين حضر لإحياء واستعادة أغنيات الموصلي، وقدم عدة أغنيات له، فيقول مجدي حسين " لقد قدمت أغنيات عديدة قرابة السبع أغاني للموصلي وتقصدت أن اختار تلك الأغنيات التي كتبها هو ولحنها، حيث قدمت أغنية زوروني بالسنا مرّة، وقدمت أغنية موصيلية للراحل ايضا." وأشار حسين قائلا " إن ألحان الموصلي تُعدّ حدثاً تاريخيا فنياً يُضاف إلى التأريخ العراقي خاصة والعربي عامة، فهو يُشكل الجانب الحضاري والفني لمدينة الموصل بانفعالها وثقافتها، واستطاع الموصلي أن يعكس لنا تراث المدينة من خلال ما قدمه من ألحان رائعة."
ولم ننسَ الموصل المنكوبة في هذا الاحتفاء، التي رغم تحريرها إلا أنها بحاجة لمن يُضمّد جراحها، لا لكي تنساها، فالنسيان احياناً يُضعفنا، لأنه لا يمنحنا التعلم من دروس الحياة، والموصل يجب أن لا تنسى نكبتها الكبرى، فكل ما عليها هو تجاوزها والتفوق على الألم.
والشاعرة أفياء الأسدي تحدثت حول كيف بإمكاننا من خلال استعادة ثقافة المدينة أن نُحييها وقالت " بعد كل ما عانته المدينة، إلا أن ثقافتها لا تزال بألف خير، ذلك أن مثقفيها هربوا بعلمهم وثقافتهم من الإرهاب الذي سيطر عليها، فلم يُشوه الفكر المثقف في تلك المدينة ومن خلال هذا الفكر سنعمل على استعادة أفكار أبناء المدينة في محاولات ليست بسهلة، إلا أنها ليست مستحيلة".
أرسل تعليقك