غزة – محمد حبيب
غزة – محمد حبيب
يعد الجامع العمري الكبير من أحد أهمّ وأكبر المساجد الأثريّة في فلسطين، لوقوعه في قلب البلدة القديمة في حي الدرج شرق مدينة غزة، وتبلغ مساحته (4100 متر مربع)، والذي تم إنشاؤه في القرن الخامس الهجري عام 1019 ميلادي، ويوجد فيه قبر "الشيخ زكريا التدمري، وتم تجديد المسجد أكثر من مرة، وشهد العديد من الإضافات المعمارية
، ولم يتبقّ منه سوى المئذنة التي تقع بجواره.
ويقال إنه تم في بنائه استخدام الأعمدة المتبقية من تهدّم الكنيسة الأفدوكسية، ويرجع سبب تسميته بالمسجد العمري نسبة إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي فُتح في عهده، على يد القائد المسلم عمر بن العاص.
ويكتسب المسجد العمري أهميته من حيث القيمة الأثرية والتاريخية، وذلك لاحتوائه على عناصر الموروث الثقافي والمعماري في المدينة، إذ يصل عدد الأبنية الأثريّة فيه إلى 400 بيت أثري، إضافة إلى 32 مبنى تاريخيا ودينيا يعود إلى الفترة المملوكية والعثمانية.
ويصف إمام المسجد الشيخ عثمان الطباع قائلاً "الجامع العمري الكبير هو أعظم الجوامع وأقدمها وأحسنها وأمتنها وأتقنها، وفيه بيت كبير قائم على ثمانية وثلاثين عامودا من الرخام واسطوانات متينة البناء وفي وسطه قبب مرتفعة، وهو الكنيسة التي أنشأها أسقف غزة برفيريوس على نفقة الملكة أفذوكسيا، وقلّ أن يوجد لها نظير في بلاد الشام".
وأضاف في كتاب "إتحاف الأعزّة في تاريخ غزة"، "ولما فُتحت غزة أيام الخليفة الأعظم صاحب الفتوحات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه جُعلت هذه الكنيسة جامعا ثم زيد فيها صفّ خيم من الجهة القبليّة وجُعل فيه محراب ومنبر وجُعل موضع النّاقوس منارة ثم فتح للبيت المذكور، الباب الشمالي المعروف بباب التينة والشباكان الشماليّان وكذلك الباب القبلي"·
ووُضعت حجارته الأولى قبل 900 عام، إذ كان معبدا وثنيا ثمّ تحوّل إلى كنيسة بعد دخول الدّيانة المسيحيّة إلى غزّة، وكان الصليبيّون في عهد الحروب الصليبيّة استولوا على غزة، وأقاموا كنيسة القديس "يوحنّا" على أنقاض المسجد العمري، وهو البناء الحالي للمسجد الذي يتّخذ الشكل المستطيل على النّمط "البازيليكي" كما قال المؤرخ الفلسطيني المعروف سليم المبيض.
وأضاف "ثمّ مع الفتح الإسلامي، لبّى عمرو بن العاص طلب أهل غزة بتحويله إلى جامع بعد اعتناقهم الإسلام، وسُمي بالعمري نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
ويؤدّي المسجد العمري دوراً مهمّاً في الدعوة الإسلاميّة على مر التاريخ. ووفقاً للمؤرّخ المبيض "فإنه خرّج أجيالاً من الدعاة والعلماء والخطباء، كما أنه يحتوي على مكتبة مهمّة تضمّ بين جنباتها العديد من المخطوطات في مختلف الفنون والعلوم".
وترجع نشأة هذه المكتبة، كما ذكر الباحث في المخطوطات عبد اللطيف أبو هاشم إلى الظاهر بيبرس البندقداري الذي كان محبّا لغزّة وشديد العطف على أهلها، وهو الذي أقام بها المنشآت من مساجد وزوايا ومستشفيات و(بيمارستانات) ومكتبات".
وقال في كتابه "المساجد الأثرية في مدينة غزة"، إنّ "المكتبة كانت تحتوي على نيف وعشرين ألف كتاب في مختلف العلوم والفنون، علاوة على مائة واثنين وثلاثين مخطوطة ما بين مصنف كبير (مجلد) ورسالة صغيرة، ويوجد فيها قسط وافر من كتب العلماء الغزيّين ووقفياتهم التي كانوا يقفونها".
وعلى الصعيد المعماري، فإن جولة بسيطة في أروقة المسجد الداخلية والخارجية يشعر الزائر بعبق التاريخ وعظمة البناء، حيث تنتشر الأقبية المتقاطعة والدّعامات المستطيلة التي تحمل العقود المدببة، أما الأعمدة الرخامية فهي رمادية اللون ذات أنصاف أقطار وتعلوها التيجان الكلاسيكية، كل هذا إضافة إلى الزخارف التي تزيد المداخل والمخارج.
أما محراب الجامع ومنبره فهو رخامي تزينه الزخارف الملونة، بينما تصعد إلى السماء على الجزء الشرقي مئذنته مثمنة الشكل على الطراز العثماني.
ورغم أن أكبر توسعة تمت للجامع العمري قام بها الشيخ محمد كمال الدين البكري في العهد العثماني، إلا أن الإضافات توالت على المسجد قبل ذلك التاريخ وبعده، كما هو الحال في العهد المملوكي، وعهد الناصر محمد بن قلاوون كما قال المؤرخ المبيض. وتابع "واستمرت الترميمات حتى كان آخر ترميم لهذا المسجد عام 1926 من خلال المجلس الإسلامي الأعلى الذي تولى إدارة أوقاف المسلمين في عهد الانتداب البريطاني.
ومنذ عام 2000 شرعت السلطة الوطنية الفلسطينية في عملية ترميم شاملة للجامع أوشكت على الانتهاء، "والمشروع عبارة عن ترميم وإعادة تأهيل المسجد بتبرع من الأمير الوليد بن طلال، تشرف عليه لجنة إعمار خاصة مكونة من شخصيات رسمية وأهلية" كما قال مساعد مدير مركز التراث المعماري في الجامعة الإسلامية في غزة المهندس محمود البلعاوي.
وأكد أن المشروع مر بمراحل عدة منها التوثيق المعماري والتسجيل الهندسي باستخدام محطة الرفع المتكامل والتصوير المقوم والفوتجرامتري، وذلك لعمل المساقط والقطاعات والواجهات الداخلية والخارجية وللمئذنة ومساقط الأرضيات الأثرية ومسقط للسقف والتفاصيل المعمارية.
وأضاف "تم إجراء فحص للتربة، وعمل العديد من الدراسات الإنشائية والزلازل والبيئية، وإعداد دراسة للأحجار وخرائط التدهور البصري، ونماذج وحدات الإضاءة التي تتوافق مع الوضع الأثري للبناء، ومن ثم تم وضع منهاج الترميم".
ويستبعد المؤرخ الفلسطيني ابراهيم سكيك من سكان غزة رواية المؤرخ عارف العارف في كتابه عن تاريخ غزة 1943 ان أصل المسجد العمري الكبير هو كنيسة حيث يقول (كانت في غزة عند الفتح الاسلامي كنيستان ولما كان سواد المسيحيين الأعظم دخلوا يومئذ في دين الإسلام فقد جاؤوا فاتح غزة القائد العربي الكبير عمرو بن العاص وطلبوا إليه أن يقضي بينهم وبين إخوانهم الذين بقوا على دين النصرانية قائلين إنهم ورثوا عن آبائهم وأجدادهم تلك المعابد والكنائس ليقيموا فيها صلواتهم وطقوسهم الدينية والآن دخلوا في الدين الإسلامي وهم المالكون لتلك المعابد وطلبوا تقسيمها بينهم وبين إخوانهم الذين بقوا على دينهم تقسيماً بالحق، وقد قبل عمرو بن العاص دعواهم ونتيجة لذلك أخذ المسلمون المعبد الكبير لأنهم الأكثرية وأخذ النصاري المعبد الصغير لكونهم الأقلية).
ويرى سكيك أن هذه الحكاية الموضوعة لا نصيب لها من الصحّة، فالمعروف أنّ تحوّل غزّة من النصرانيّة إلى الإسلام استغرق وقتاً بدأ عند الفتح وازداد بهجرة جماعات من العرب المسلمين سكنت غزة وضواحيها.
وأشار إلى أنه يبدو أن الحكاية تعود إلى السلطان صلاح الدين فهو الذي حوّل الكنيسة التي شيدها الصليبيّون على أنقاض الجامع العمري إلى مسجد وعذره في ذلك انها كانت قبل ذلك مسجداً.
فالجامع العمري إذن هو من إنشاء الخليفة عمر بن الخطاب الذي حرص على إقامة المساجد في البلاد التي انتشر فيها الإسلام واختار موقع الهيكل الوثني القديم الذي تم هدمه من قبل قرنين من الزمان وحافظ على كنيسة القدس برفيويوس في محله الزيتون وسط المدينة.
أما المبنى الحالي للجامع فأصله كنيسة صليبية بناها فرسان القديس يوحنا قبل أكثر من ثمانية قرون ثم فتح صلاح الدين المدينة عقب موقعه حطّين عام 1187م وقام بتحويل الكنيسة إلى مسجد وبقي هيكل البناء قائماً بما في ذلك قبة الجرس وإنما طمس النقوش عن الجدران وبنى محراباً.
وأضاف المماليك على المسجد إضافات كثيرة منها بناء مئذنة في عهد السلطان الملك أبوالفتح حسام الدين لاجين الذي نال الحكم من سلفه بن قلاون ثم عاد أبوالفتح لحكم البلاد وشيد المئذنة كما تدل على ذلك نقوش على الباب الشرقي للمسجد جاء فيها أمر بإنشاء هذا الباب والمئذنة المباركة مولانا وسيدنا السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين ابوالفتح لاجين المنصوري وتولى عمارتها العبدالقيدالي ربه الراجي الصفو سنقر السلحدار العلائي المنصوري في أيام ولايته وكان الفراغ منها في شعبان 697 هجرية.
أما بن قلاون فأضاف رواقاً كبيراً جنوبي المبنى القديم بعد أن ضاق المبنى بالمصلين ولا يزال الباب الجنوبي للجامعة جهة سوق القيصرية يحمل اسم الملك الناصر علي بلاطه عليها تاريخ (730 هـ ـ 1329 م).
واحتاج هذا المسجد الكبير إلى ترميمات وأضافات في العهد العثماني الطويل بين ذلك تجديد المئذنة في عهد درويش حسين باشا متصرف غزة (1788م) أما الباب الشمالي فأنشأه نقيب الإشراف كمال الدين البكري في أواسط القرن الماضي. ورمّم المسجد مجدداً عام (1874م) في عهد رؤوف باشا وتولى ذلك الكنج محمد.
وآخر ترميم لهذا المسجد كان على المجلس الاسلامي الأعلى الذي تولى إدارة أوقاف المسلمين في عهد الانتداب البريطاني وكتبت على بلاطه فوق الباب الغربي الجديد (جدد عمار هذا الجامع المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى 1345 هـ (1926م).
أرسل تعليقك