لا تزال التقلبات الحادة في أسعار النفط تمثل المشكلة الأكبر لاقتصاد الهند التي تعتبر ثالث أكبر مستورد عالمي للنفط الخام؛ حيث تستورد 80 في المائة من احتياجاتها من الخارج. فالهند تقف في هذه الأيام على المحك بعد ارتفاع أسعار النفط بواقع 70 في المائة العام الماضي وحده، إذا حسبنا السعر بـ"الروبية" (العملة الهندية). فقد أظهرت بيانات صادرة عن الحكومة الهندية أنه بين عامي 2017 و2018، استوردت الهند 219 طنا من النفط الخام بقيمة 88 مليار دولار، وفي سبتمبر/أيلول من العام الماضي استوردت نفطا بقيمة 10.91 مليار دولار، بزيادة 33.6 في المائة عن العام الماضي.
إن زيادة دولار واحد في سعر برميل النفط الخام في الأسواق العالمية، يتسبب في تحمل الخزانة الهندية نحو 1.5 مليار دولار. وفي الشهور الأخيرة تعدى سعر النفط عالميا 80 دولارا للبرميل (ضعف السعر منذ عامين)، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، منها التوتر الجيوسياسي، والعقوبات، وبالطبع تدفق رأس المال لأغراض المضاربة. وفي عام 2015، تفوقت الهند على اليابان بعد أن أصبحت ثالث أكبر مستهلك للنفط الخام بعد الولايات المتحدة والصين، وفي الوقت ذاته، فإن استهلاك الهند من النفط الخام يرتفع بأعلى وتيرة بين اقتصادات الدول الكبرى. وفي هذا الصدد، أفاد بارتا غوش، المدير التنفيذي لمؤسسة النفط الهندية، بأنه من المتوقع ارتفاع طلب الهند على النفط ليصبح 500 مليون طن في العام بحلول عام 2040، غير أن الزيادة المستمرة في أسعار النفط ربما تقف حجر عثرة أمام النمو. ويعني هذا زيادة الاستهلاك ليصبح 10 ملايين برميل يوميا، مقارنة بنحو 4.7 مليون برميل عام 2017.
وأعلن بروناب سين، مدير "مركز النمو العالمي" في الهند، أن اقتصاد الهند في غاية الحساسية لأسعار النفط؛ حيث يقال إن زيادة سعر البرميل بواقع 10 دولارات يقلل إجمالي دخل الفرد بواقع 0.2 إلى 0.3 في المائة.
احتياطيات استراتيجية
وتتطلع الهند إلى الحصول على استثمارات من منتجي نفط وتجار عالميين، لتكوين احتياطيات نفط إضافية للطوارئ، تقي من الارتفاع الحاد والمفاجئ في الأسعار.
عمالقة النفط في العالم، مثل "أرامكو"، وشركة "بترول أبوظبي الوطنية" وكيانات النفط التجارية، مثل "فيتول غروب"، و"غلينكور"، جمعيهم عبروا عن رغبتهم في مشاركة الهند في تكوين احتياطي استراتيجي نفطي للبلاد. وتعتزم الحكومة الدعوة إلى مناقصات لتكوين شراكات لبناء خزانات نفط خام استراتيجية في منطقتي "شانديخول"، بولاية "أوديشا"، و"بادور" في "كرانتكا ضمن نشاطات القطاع الخاص.
وقال إتش بي إس أهوجا، المدير التنفيذي لشركة "احتياطي النفط الاستراتيجي" الهندي المحدودة، إنه "بالنظر إلى الطلب المتزايد على الطاقة في البلاد، فقد أبدى اللاعبون العالميون رغبة في المشاركة في إنشاء كيان يحفظ مخزون النفط الاستراتيجي في البلاد. ويمكن للخزانات تحت الأرض استيعاب 6.5 مليون طن من النفط الخام. إن تشجيع المستثمرين على المساهمة في بناء مرافق التخزين، من شأنه أن يقلل الضغط على أموال الدولة، ويساعد الحكومة في تنفيذ أهداف ميزانيتها الرامية إلى التوسع في الاحتياطي النفطي لحماية الاقتصاد القومي من اشتعال الأسعار".
واستطرد أهوجا بقوله: "نعمل على الاستعانة بالتجارب المالية لدول أخرى في بناء وملء الخزانات، وهو ما سيعود بالنفع المادي على المستثمرين"، مضيفا أن "الهند ستحتفظ بحقها في النفط المخزون بتلك المستودعات".
تراجع الروبية
وساء وضع سعر النفط في الهند بسبب التدهور السريع لقيمة عملة الروبية، بعد أن انخفضت بواقع 16 في المائة منذ بداية العام. بكلمات أخرى، تتعرض البلاد لضربة مزدوجة تتمثل في ارتفاع أسعار النفط الخام وتراجع قيمة الروبية، مما يرفع من سعر الواردات. ولم يؤدّ قرار الحكومة بتعويم الروبية إلى نتائج ملموسة حتى الآن. ووفق التقرير الصادر عن "مؤسسة كريسل البحثية"، فقد أدى ارتفاع قيمة النفط إلى الضغط على العجز في الحساب الجاري للدول المستوردة للنفط مثل الهند، مما أدى إلى مزيد من التراجع في قيم العملات.
ويواجه صناع القرار في الهند حاليا مهمة صعبة، تتمثل في قيادة دفة الاقتصاد. على سبيل المثال، فقد اتسع العجز في الحساب الجاري ليبلغ 2.4 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في الربع الأول من العام المالي 2018 - 2019. ومن المتوقع أن يصل إلى 3 في المائة بنهاية العام، وهو ما لا يظهر أي مؤشرات للتعافي. بالإضافة إلى ذلك، فإن زيادة مبيعات البترول والديزل قد تأثرت بالفعل سلبيا بعد أن قفزت أسعارهما إلى عنان السماء.
ومن المرجح أن يكون لذلك تأثير سلبي على مستقبل الاقتصاد الهندي، الذي يعد الأسرع نموا في العالم، في الفترة القادمة؛ حيث إن ارتفاع أسعار الوقود يهدد بحدوث حالة من التضخم، مما يجبر البنك المركزي الحذر على اللجوء إلى مزيد من التشديد في السياسة المالية. فقد حققت مؤشرات أسواق المال خسائر نتيجة لانسحاب المستثمرين الأجانب من أسواق المال الهندية، بسبب المخاوف العالمية وتأثير عملة الروبية الضعيفة على العائدات المحلية. وفي الوقت ذاته، سحب المستثمرون الأجانب أكثر من 12 مليار دولار من الأسواق الهندية، حتى الأسبوع الأول من أكتوبر الجاري.
وبحسب التقارير، فإن هذا هو أسوأ هروب لرأس المال منذ عام 2002، فالوضع يبدو قاتما على المدى القصير، بحسب البروفسور أر نغراج، الأستاذ بـ"معهد أنديرا غاندي للتنمية والأبحاث" في مومباي، الذي أضاف أن المشكلة تكمن في هروب رأس المال نتيجة لسحب المستثمرين أموالهم، مما يؤدي إلى تراجع قيمة الروبية وهبوط أسعار الأسهم.
في الوقت ذاته، حاولت الهند إقناع منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" بوضع حد للحصص التي تحصل عليها المنظمة عند بيع الدول الأعضاء نفطهم للهند. وتمثل الحصة الآسيوية السعر الأعلى الذي تدفعه الدول الآسيوية لشراء النفط من "أوبك". فالولايات المتحدة وأوروبا الغنيتان تحصلان على النفط بأسعار منافسة. وقد توجه رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي بنداء حار خلال تجمع لوزراء النفط البارزين في نيودلهي مؤخرا، لتقليل كلفة الطاقة، لكي يتعافى الاقتصاد في المستقبل. ودعا مودي كذلك إلى مراجعة شروط السداد، بأن طالب باستخدام جزئي للروبية الهندية في شراء النفط، بدلا من الدولار الأميركي، بغرض تخفيف العبء على الدول المستوردة للنفط نتيجة لارتفاع قيمة الدولار الأميركي.
بدائل للدولار في تجارة النفط
تفكر الهند مليا في استبدال الدولار في تجارتها النفطية مع إيران وفنزويلا وروسيا. ويعمل بنك الاحتياطي الهندي ووزارة المالية على توفير عملة الروبية، وعقد صفقات مقايضة مع الدول المنتجة للنفط مثل روسيا وإيران وفنزويلا. وبالفعل أبرمت الهند اتفاقا بهذا المعنى بالروبية مع إيران. وقد أفاد الباحث إر سارمارثي بأن نحو مليوني برميل يوميا من النفط الخام قد تختفي من السوق بسبب العقوبات الأميركية على إيران، بنهاية الربع الأخير من العام الجاري. وفي حال فقدت الهند نفط إيران الذي تبتاعه بتخفيضات كبيرة - في الوقت الذي قفزت فيه أسعار النفط - وتجاوزت الضغوط حدود تحمل المواطنين رغم كل الإجراءات المتخذة، وفي وقت تمر فيه الروبية بأسوأ فترات ضعفها أمام الدولار، فسوف يخترق الموقف السياسي منطقة الخطر.
وكان النفط الذي ستشتريه الهند من إيران دوما صفقة رابحة للهند؛ لأن إيران وحدها تعرض مهلة السداد بعد 60 يوما من الشراء، وهي الميزة التي لا تعطيها أي دولة أخرى مصدرة للنفط للهند. وفي سياق متصل، قال مسؤول رفيع، إن فنزويلا تعد ضمن أكبر عشر دول مصدرة للنفط للهند، ولذلك فقد تكون هناك إمكانية لاستخدام نظام السداد بالروبية. وعلى الهند النظر إلى ما يمكنها بيعه إلى جانب الأرز والأدوية لتضفي نوعا من الجاذبية على صفقاتها، مضيفا أن الترتيبات في هذا الشأن ستعتمد على نظام المقايضة.
أرسل تعليقك