على الرغم من مرور 41 عامًا على رحيل كوكب الشرق أم كلثوم، إلا أنها لا تزال حاضرة في أذهان ونفوس المصريين والعرب حتى الآن.
أسطورة لن تتكرر فهي الهرم الرابع من أهرامات مصر، وصاحبة حنجرة ذهبية منذ نعومة أظافرها وحتى رحيلها.
ولدت أم كلثوم، في إحدى قرى محافظة الدقهلية، وكانت في صغرها تحفظ القرآن وبعدها بدأت تحفظ التواشيح الدينية وتغنيها مع شقيقها الأكبر خالد، ووالدها إبراهيم البلتاجي، الذي كان يعمل مؤذن في قرية طماي الزهايرة، التابعة لمركز السنبلاوين في محافظة الدقهلية.
وكان أول لقاء لفاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، التي اشتهرت فيما بعد باسم "أم كلثوم" مع الجمهور عندما تغنت ببيت شيخ البلد بقريتها ببعض التواشيح.
في عام 1916 تعرف والدها على الشيخ زكريا أحمد، والشيخ أبو العلا محمد، أثناء إحياؤهما لليالي رمضان في القرية وعندما سمعوا صوت أم كلثوم، أقنعا والدها بضرورة الانتقال للقاهرة، حيث إن الشهرة ستكون أوسع لها وبالفعل ذاع صيتها في القاهرة عندما قامت بإحياء ليلة الأسراء والمعراج في قصر عز الدين يكن باشا، ووقتها من شدة أعجابهم بصوتها أعطتها سيدة القصر خاتما ذهبيا وأخذت 3 جنيهات أجرا لها عن تلك الليلة.
قرر والدها الاستقرار في القاهرة نهائيًا عام 1921، وبدأت أم كلثوم تغني في حفلات كبار البلد وقتها وكانت تشترك في الحفلات التي يشترك بها كبار المطربات مثل المطربة منيرة المهدية والتي كانت ملقبة بـ "سلطانة الطرب".
وفي عام 1924 تعرف الموسيقار أحمد رامي عليها عن طريق الشيخ أبو العلا محمد في إحدى الحفلات التي كانت تغني بها وكان وقتها كان عائدا من أوروبا وعندما سمع أم كلثوم بدأ يتعلق بصوتها كثيرا ، وفي نفس العام أيضا سمعها محمد القصبجي.
وفي ذلك العام بدأ محمد القصبجي في إعداد أم كلثوم فنيا ومعنويا مشكلاً لها فرقتها الخاصة، وأول تخت موسيقي يكون بديلا لبطانة المعممين التي كانت معها دائما، عندما شنت روز اليوسف والمسرح هجوما صاعقا على بطانتها.
لعل هذا ما جعل أباها يتخلى عن دوره كمنشد وينسحب هو والشيخ خالد. بعد ذلك بعام تقريبا خلعت أم كلثوم العقال والعباءة وظهرت في زي الآنسات المصريات، وذلك بعد أن توفى الشيخ (أبو العلا محمد) الذي ترك فيها تأثيرا روحيا عظيما وكان مرشدها في عالم الطرب.
كان شائعًا في أوائل القرن العشرين أن يقدم المطربون قصائد بعينها بصرف النظر عن تفرد أحدهم بها، وكانت المباراة بين المطربين تكمن في كيفية أداء نفس القصيدة.
وهكذا أدت أم كلثوم قصيدة (أراك عصى الدمع) مرة من ألحان السنباطي، ومرة أخرى من ألحان عبده الحامولي .
في عام 1928 تغني مونولوج "إن كنت أسامح وأنسى الآسية"، لتحقق الأسطوانة أعلى مبيعات وقتها على الإطلاق ويدوي اسم أم كلثوم بقوة في الساحة الغنائية، وهو نفس العام الذي لحنت فيه أم كلثوم أغنية "على عيني الهجر" بنفسها لنفسها.
أما التعاون مع السنباطي فكان له شكلا مختلفا في عام 1935 غنت أم كلثوم "على بلد المحبوب وديني"، من ألحان الملحن رياض السنباطي، وقد ظل السنباطي يلحن لأم كلثوم ما يقرب من 40 عامًا، ويكاد يكون هو ملحنها الوحيد في فترة الخمسينات، بعدها بعام لحنت أغنية "يارتني كنت النسيم"، في ثاني وآخر تجربة لها وكانت تجربتها الأولي أغنية "على عيني الهجر" عام 1928.
في عام 1946 غنت 3 قصائد من ألحان السنباطي وكلمات أحمد شوقي، غنت "سلوا قلبي"، التي أخذت بعدًا سياسيًا في أبياتها ،وكان ذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ورجوع الإمبراطورية البريطانية عن وعدها بمنح مصر الاستقلال التام، وغنت قصيدة "ولد الهدى"، وغنت أيضا في ذلك العام أروع ما غنت في المديح النبوي نهج البردة.
وفي سنة 1966 غنت من ألحان رياض السنباطي قصيدة الأطلال من كلمات الشاعر إبراهيم ناجي، وكان غناؤها لهذه الأغنية بعد عام واحد من غنائها لأغنية "أنت عمري"، من ألحان محمد عبد الوهاب، وكان ذلك بمثابة رد من السنباطي على عمل عبد الوهاب "أنت عمري" الذي حقق نجاحًا كبيرًا، واثبت السنباطي أيضًا قدرته الفائقة على تلحين القصائد، التي تكتب بالفصحي، وحققت الأطلال نجاحًا قويًا.
وعند قيام ثورة يوليو تم التعامل بعدوانية شديدة مع كل ما يخص عهد الملك السابق، فتم منع إذاعة أغاني أم كلثوم من الإذاعة نهائيًا وطردها من منصب نقيبة الموسيقيين، باعتبارها مطربة العهد البائد.
ولم يكن هذا قرارًا من مجلس قيادة الثورة، لكنه قرار فردي تم اتخاذه من قبل الضابط المشرف على الإذاعة، برغم أن أم كلثوم غنت للجيش المحاصر في الفالوجه أثناء حرب فلسطين أغنية "غلبت أصالح في روحي"، ذلك الجيش الذي كان بين أفراده عبد الناصر وأنور السادات، إلا أنه تم اعتبارها ضد الثورة بسبب حصولها على قلادة صاحبه العصمة، وغنائها للملك أكثر من مرة.
وصل الموضوع إلى جمال عبد الناصر شخصيًا، الذي ألغى هذا القرار، ويذكر أن الذي أوصل إليه الموضوع هو مصطفى أمين في سبتمبر1952، وعلى إثر نزاع على منصب النقيب يتم إلغاء انتخابات النقابة، ويتم تعيين محمد عبد الوهاب نقيبًا للموسيقيين، على إثر هذا الموقف وما تردد عن مساندة بعض الضباط الأحرار لعبد الوهاب تُبَلِغ أم كلثوم قرار اعتزالها إلى الصاغ أحمد شفيق الأبو عوف، الذي نقله إلى مجلس قيادة الثورة، فذهب إليها وفد مكون من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم لإقناعها بالعدول عن رأيها، لقد أثرت هذه اللحظة فيها كثيرا جدا كما ظهر فيما بعد من أغانٍ لها ومواقف، وحملت إعجابا جارفا بعبد النـاصر وبمواقفه ككل الشعب آنذاك، ويتجلى ذلك في أغنية مثل (بعد الصبر ما طال نهض الشرق وقال، حققنا الآمال برياستك يا جمال) أو (يا جمال يا مثال الوطنية..أجمل أعيادنا المصرية برياستك للجمهورية)
تم تدارك كل ما حدث سابقا في حق أم كلثوم بعد أن هدأت الأمور، والثابت أن الثورة بعد ذلك أعطتها دافعا معنويا قويا, حتى أنها رأست اللجنة التي أشرفت على اختيار السلام الوطني الجديد للجمهورية, حيث أيدت أم كلثوم النشيد الوطني الذي أعده عبد الوهاب إلا أن الدكتور حسين فوزي أثبت أن النشيد منقول من اسطوانة للموسيقار التشيكي بيللا برنوك بعد ادخال عدة تعديلات عليه.
و في 19 ديسمبر 1952 تم تكوين اللجنة الموسيقية العليا التي كانت من أعضائها وبجانبها السنباطي وعبد الوهاب.
وفي عام 1953 تنتخب كعضو شرفي في جمعية مارك توين العالمية نفس الجمعية التي من أعضائها الشرفيين دوايت ايزنهاور وونستون تشرشل وثيودور روزفلت، وفي نفس العام تحديدا 8 يوليو يتوفى أخوها الشيخ خالد.
وفي عام 1954خفضت أم كلثوم جدول حفلاتها الموسيقية بسبب المشاكل الصحية التي تعاني منها، وارتدت النظارة السوداء بشكل مستمر بسبب مرض الغدة الدرقية الذي أدى إلى جحوظ عينيها، و كان هذا سببا أيضا لإيقافها لنشاطها التمثيلي الذي اقتصر على 6 أفلام.
وفي عام 1954 تزوجت أم كلثوم من حسن السيد الحفناوي أحد أطبائها الذين تولوا علاجها واستمر الزواج حتى وفاتها.
و في 29 أكتوبر عام 1956 غنت أم كلثوم نشيد صلاح جاهين "والله زمان ياسلاحي" الذي أصبح نشيدًا قوميًا، ذلك النشيد الذي أتى به لها كمال الطويل ذات ليلة حدثت فيها غارة وحفظت النشيد على ضوء الشموع، وحين قررت أن تسجله في محطة الإذاعة بشارع الشريفين يعترض أغلب الموسيقيين خوفًا من إعلان إسرائيل أنها ستضرب محطة الإذاعة فقررت أم كلثوم أن تسجل النشيد.
و في تلك الفترة "الخمسينات" تغني "مصر التي في خاطري"، و"أنشودة الجلاء"، و"هسيبك للزمن"، وتشارك في مسلسل إذاعي هو مسلسل رابعة العدوية، حيث تشترك بتقديم الأغاني في المسلسل، أغانٍ مثل: "على عيني بكت عيني"، "لغيرك ما مددت يدً"، "يا صحبة الراح"، "حانة الأقدار"، "الرضا والنور"، "عرفت الهوى مذ عرفت هواك"، تلك الأغاني التي تم استعمالها في الفيلم الشهير "رابعة العدوية"، التي قامت ببطولته هي ثم أعيد الفيلم مرة أخرى لكن قام بدور البطولة نبيلة عبيد.
و في عام 1960 حصلت وسام الاستحقاق من الدرجة الأولي، وتفتتح التليفزيون كما افتتحت الإذاعة كذلك قبل 26 عامًا، و في عام 1962 تغني أغنية أنساك التي لحن زكريا أحمد مذهبها قبل أن يموت وتسند بقية اللحن إلى بليغ حمدي، هذه الأغنية من كلمات مأمون الشناوي، و الحقيقة أن مأمون الشناوي حاول التعاون معها أكثر من مرة كان أولها أغنية الربيع التي ذهبت إلى فريد الأطرش، و كانت المشكلة بينهما تمسك مأمون الشناوي بكلماته وتمسك أم كلثوم بتغيير الكلمات، في هذه المرة يرضخ مأمون لطلباتها كلها معلنا فوز أم كلثوم.
و استقبلت أم كلثوم خبر نكسة يونيو وهزيمة الجيش المصري بكل حزن واسي مثلها مثل كل المصريين وقتها إلا أنها سارعت وكانت من أوائل المطربين الذين أقاموا الكثير من الحفلات داخل مصر وخارجها للتبرع بأرباحها إلي المجهود الحربي وتغني اغنيتها الشهيرة "أصبح عندي الآن بندقية"، وغنت أيضًا أغنية "حبيب الشعب"، لعبد الناصر بعد تنحيه وعودته ثانيًا.
وفي ليلة الأربعاء 15 نوفمبر 1967 غنت أم كلثوم على مسرح "الأولمبياد"، في باريس، كانت تغني "الأطلال"، والطريف أنها سقطت من علي خشبة المسرح وهي تقول هذا البيت: "هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا"، عندما أصر أحد السكارى الفرنسيين تقبيل قدمها.
و تنتهي فترة الستينات بوفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وكانت وقتها تغني في أحد الحفلات بروسيا فعادت إلي مصر وغنت (رسالة إلى الزعيم) من تأليف نزار قباني وألحان رياض السنباطي عام 1970 ترثي بها عبد الناصر بعد وفاته.
وبدأ رحلة مرضها الأخيرة عندما أتتها أغنية "أوقاتي بتحلو معاك، و حياتي بتكمل برضاك"، ولكنها لم تغنيها، فأثناء البروفات للأغنية وقعت صريعة لمرض التهاب الكلى، وسافرت إلى لندن للعلاج وكانت قبل سفرها قد طلبت من الشاعر صالح جودت أن يكتب أغنية بمناسبة نصر أكتوبر وبعد عودتها طلبت من الملحن رياض السنباطي تلحينها حتى تغنيها في عيد النصر لكنها توفيت قبل أن تؤديها وكانت الأغنية مطلعها "ياللي شبابك في جنود الله.. والحرب في قلوبهم صيام وصلاة".
و في 22 يناير عام 1975 تصدرتْ أخبار مرض أم كلثوم الصحف وكانت الإذاعة تستهل نشراتها بأخبار مرض أم كلثوم وعرض الناس التبرع بالدم لأم كلثوم.
وفي 3 فبراير عام 1975 في القاهرة تلف ملامح عدم التصديق وجوه الجميع، و تندمج اذاعات الشرق الأوسط والبرنامج العام وصوت العرب في موجة واحدة لتعلن الحقيقة.
وظهر يوسف السباعي في تمام السادسة مساء ليلقي النبأ، بينما وقف المهندس سيد مرعي رئيس مجلس الشعب دقيقة حدادًا، وأرسل الأمير عبد الله الفيصل هدية عبارة عن عدة ليترات من ماء زمزم وصلت مباشرة من الأراضي المقدسة كواجب أخير.
وكتبت صحيفة الأورو الفرنسية أنها مثلت للعرب ما مثلته اديث بياف للفرنسيين إلا أن عدد معجبيها أضعاف عدد معجبي اديث بياف، و كتب بيجل كاربيير في صحفية الفيجارو أنه برغم أن الأوروبيين لم يفهموا الكلمات إلا أنها وصلت إلى روحهم مباشرة.
وصحيفة التايمز تكتب أنها من رموز الوجدان العربي الخالدة. و صحيفة زيت دويتش سايتونج الألمانية كتبت أن مشاعر العرب اهتزت من المحيط إلى الخليج.
و الصحف العربية رددت النبأ في الصفحات الأولى بينما سيطر الوجوم على العرب، كانوا يعرفون أنهم فقدوا آخر رابط حقيقي بينهم, لقد فقدت مصر هرمها الرابع، وفقد العالم العربي كوكبه المشرق لقد ماتت أم كلثوم، وتم تشيع جنازتها فكانت جنازة مهيبة جداً وتعد من أعظم 8 جنازة في العالم إذ بلغ عدد المشيعين أكثر من 4 مليون شخص.
أرسل تعليقك