تتشابه الظروف التاريخية بين كنيستي كاتدرائية نوتردام الفرنسية وكنيسة قلب لوزة السورية، فعبر 600 عام من التاريخ، لا تقتصر أهمية كاتدرائية نوتردام على كونها تحفة معمارية وفنية، بل ما يمثله هذا الصرح المعماري من إرث ثقافي إنساني وبكونه هوية وذاكرة، يشكل لبنة في مسيرة بناء الحضارة الإنسانية التي تنتقل من جيل إلى جيل، عبر المكان والزمان.
تتميز الكاتدرائية بطرازها القوطي ذي الدعامات الطائرة والنوافذ العالية المدببة والنوافذ ذات شكل الزهرة. ولمعرفة التطور التاريخي للطرز المعمارية ينبغي العودة إلى أصولها والبدء من الفكرة الأولى التي نمت وتطوّرت إلى أن اتخذت شكلها الحالي الذي نلمسه في حاضرنا.
يتطلب ذلك العودة إلى الأصول المعمارية لطراز كاتدرائية نوتردام وتاريخ تطوره، إذ يعود لطبيعة المسيحية المبكرة نفسها التي ربطها المؤرخون بكونها ديانة مشرقية حيث بحثوا عن أصولها في الأراضي التي شهدت ولادتها ومراحل تطورها الأولى في فلسطين وسوريا.
نشأت العمارة المسيحية المبكرة وتطورت خلال القرون الأولى للمسيحية وحوت عدداً من الثقافات والطرز المعمارية الإقليمية في أوروبا والشرق الأوسط.. ففي الجزء الشرقي من الإمبراطورية البيزنطية والتي كانت تضم (اليونان، دول البلقان في جنوب شرق أوروبا، أنطاليا، سوريا، ومصر) اكتسبت العمارة الكنسية ملامح متطورة عن الكنيسة الرومانية وبدأت تأخذ شكلها المميز.
أقرأ أيضا :
بشار الأسد يدعو إلى تطبيق اتفاق روسيا وتركيا بشأن محافظة إدلب
"أول كنيسة"
تتحدث المراجع عن أولى المباني المسيحية في العالم (الكنيسة المنزلية) والتي تحتضنها سوريا قرب مدينة دير الزور في موقع (دورا-أوروبوس). وتتحدث أيضاً عن بدايات المسقط البازيليكي الذي اشتهرت به الكنائس المسيحية في العديد من الكنائس السورية، ومنها كنيسة القديس سمعان العمودي التي تعود لعام 473، ودير الراهب بحيرا في بصرى وكنيسة إزرع في محافظة درعا جنوب سوريا.
وتخص المراجع بالذكر كنيسة قلب لوزة جنوب شرق قرية قلب لوزة في محافظة إدلب في شمالي سوريا والتي تعود إلى ستينيات القرن الخامس الميلادي كأول كنيسة بازيليكية في سوريا.
وتعد كنائس المدن المنسية -كما هو مصطلح على تسميتها- في محافطتي حلب وادلب والتي تعود للقرنين الخامس والسادس الميلادي، أولى الكنائس في العالم، ويعد تصميمها أساساً لتصاميم الكنائس في العالم وأوروبا لمئات السنين اللاحقة.
قلب لوزة
تقـع كنيسة قلب لوزة ضمن بلدة قلب لوزة الأثرية في جبل باريشـا، وتبعد مسافة 50 كم شمالي مدينة إدلب، وتعد من أجمل الكنائس البيزنطية في سوريا. ويعود تاريخها إلى القرن الخامس بينما يعود تاريخ بناء كنيسة "قرق بيزة" في المنطقة نفسها إلى عام 361 كأول كنيسة بيزنطية بنيت في سوريا. تم تسجيل كنيسة قلب لوزة في لائحة التراث العالمي لليونيسكو عام 2011 كجزء من المدن المنسية السورية.
وجاء في الوصف التوضيحي للمدن المنسية السورية ومعالمها -ومن بينها كنيسة قلب لوزة- المقدم لليونيسكو لتسجيلها في قوائم التراث العالمي من ناحية خصائص الموقع والقيمة العالمية المتميزة له ما يلي: "من بين العديد من البقايا المعمارية، تشهد الكنائس والأديرة والمعالم الجنائزية وأماكن الحج على ولادة وتطور العالم المسيحي في ريف الشرق الأوسط.".
لقد تأثر بناء كنيسة قلب لوزة بقمة فن العمارة السورية القديمة، وسميت بقصر لوزة وأحياناً قلب لوزة أما المؤرخ الغزي فقد ذكرها باسم قلب لوزة، ولكن بعض الباحثين أطلقوا عليها تسمية كاتدرائية.
معمارياً، كان تصميم مسقط كنيسة قلب لوزة يتخذ الشكل البازيليكي بعناصره الرئيسية الثلاثة: الصحن والجناح الرئيسي أو الوسطي، والرواقان الجانبيان، والمحراب الشرقي أو الشرقية وفي بعض التسميات الحَنْيَة، متجهاً نحو الشرق.
البازيليكا
البازيليكا هي بالأصل مبنى روماني عام، استخدمه الرومان كقاعة محكمة وأحياناً كمبنى إداري وحكومي وتواجد غالباً بجانب ما يسمى بالفورم (الساحة العامة) والتي اشتهرت في عهد الرومان لكونها سوقاً عاماً للتجارة إلى جانب كونها مكاناً للتجمع والنقاش السياسي. وبعد اعتناق الرومان للمسيحية أخذت الكنائس الرئيسية الشكل البازيليكي البدائي.
يتشكل المسقط البازيليكي من عناصر أساسية تتغير أشكالها في إطار محاولة للبحث عن فراغات أكثر ملاءمة وظيفياً كتحوير أجزاء من شكل البازيليكا أو الإضافة عليها وذلك لاستيعاب عدد أكبر من الزوار، وهي:
الجناح الرئيسي (Nave ) وهو القسم الأوسع في المسقط البازيليكي وذو شكل مستطيل.
الرواقان الجانبيان ( Aisles) يحيطان بالجناح الرئيسي ويتحددان بصف أو صفين من الأعمدة.
المحراب الشرقي (الشرقية) Apes، وهو الجزء نصف الدائري الذي ينتهي به الجناح والأروقة ويحتوي المذبح.
يُضاف أحياناً قسم يسبق الجناح الرئيسي والرواقين وهو فراغ ممهد يدعى الآتريوم (Atrium) وهي قاعة مربعة يمكن للموجودين فيها سماع الموعظة دون الانضمام إلى الفراغ الوسطي للفعالية. وكذلك قسم العلّية (Narthex) والذي يقع بين الممهد والجناح الرئيسي.
ويغطي البازيليكا سقف من الخشب Timber roofed ويعلو سقف بلاطة الجناح الرئيسي عن باقي الأسقف ويختلف شكل التغطية بين جملوني ومسطح أو على شكل قبوة (نصف أسطوانة).
كما يعد بناء هذه البازيليك واحداً من أشجع المحاولات المعمارية في التاريخ البيزنطي، إذ بدلاً من الحصول على الجناح الوسطي للكنيسة عن طريق وضع صفين من الأعمدة يفصلانه عن الأجنحة الجانبية، وضع البناؤون أقواسا كبيرة جداً تستند على عضادات وسطية مما سمح للأجنحة الثلاثة (الوسطي والجانبيان) من خلال اندماجها مع بعضها بتشكيل فراغ واسع ومتكامل.
كما أن الممر وعليّته (النارثكس) الذي يشكل بهواً للدخول، بُني بين برجين توأمين (جانبيين)، وهذه الظاهرة سبقت ما يماثلها في أوروبا بعدة قرون، وهو ما شاع عن الكنائس السورية تحديداً استخدامها في ذلك الوقت كما شاع وجود ما يسمى بالـ Bema وهي مصطبة ترتفع بدرجة أو اثنتين أو ثلاثة أمام الشرقية ليجلس عليها رجل الدين وتحاط بسور.
مسقط كنيسة قلب لوزة مظهراً أقسامها من الجهة الغربية يبدأ المدخل بين البرجين التوأمين محدداً بقوس كبير، يليه الجناح الرئيسي والرواقين الجانبيين محددين بالأقواس وينتهي المحور بالمحراب مفصولاً بالبيما Bema.
التطور المعماري حتى القرن الثاني والثالث عشر
اتجه التطور المعماري في الغرب في القرنين الحادي عشر والثاني عشر نحو الطراز القوطي بمعالمه البارزة في النوافذ المرتفعة والنوافذ ذات شكل الزهرة والأقواس المدببة والقباب المتصالبة والذي نشأ في شمال فرنسا متابعاً للطراز الرومانسكي ومغيراً في بعض معالم المسقط البازيليكي تبعاً للحاجة لاستيعاب عدد أكبر من الزوار (الحجاج) والمصلين.
فبدأ يتوسع في حجم الرواقين الجانبيين وتضاف إليه المعابد نصف الدائرية حول المحراب الأساسي وترافق التوسع مع ظهور أساليب إنشائية مختلفة مثل الدعامات الطائرة (الأكتاف) والتي تعرف باسم (Flying Buttresses) ونشاهدها بوضوح في كنيسة نوتردام التي جاءت حلاً إنشائياً تدعيمياً للجدران الرقيقة الخارجية أثناء البناء.
وإذ تعبر الكنيسة ذات الطراز القوطي عن تطور كبير في نمط البناء فهي تحافظ على المسقط البازيليكي الأساسي ممثلاً بالجناح الرئيسي والرواقين الجانبيين موسّعين في هذه الحالة، منتهياً بالمحراب المندمج بالفراغ الرئيسي. وتحافظ أيضاً على البرجين الغربيين الذين يحددان المدخل مع ازدياد ارتفاعهما إلى حوالي 69 متراً. يضاف إلى ذلك البرج النصفي شاهق الارتفاع والذي يصل إلى 90 متراً.
نوتردام وقلب لوزة
بالمقارنة يمكن ملاحظة النقلة النوعية القائمة على عناصر ثابتة بين كنيسة قلب لوزة والكاتدرائية الفرنسية العملاقة من خلال متابعة تطور المساقط وأسلوب تصميم الواجهات، إذ يتحدد المدخل بقوس كبير ينحصر بين برجين توأمين يرتفعان عن سقف الجناح الوسطي. كما تحافظ نوتردام في تغطية فراغاتها على السقف الخشبي الجملوني الشكل كما هو الحال في كنيسة قلب لوزة التي أعيد رسم واجهتها من قبل المختصين.
في المحصلة، لا حدود جغرافية للتراث الثقافي، وإنما هو جزء من التطور الإنساني ينتقل عبر الحضارات التي تكيّفه حسب ثقافتها وتضيف عليه وتتابعُ لإنشاء نموذجٍ مطوَّرٍ عنه إلى أن تتغير ملامحه.
وقد يهمك أيضاً :
مقتل 13 مدنيًا جرّاء قصف صاروخي لقوات النظام السوري في محافظة إدلب
وكالات الإغاثة تنسحب من محافظة إدلب بسبب ممارسات "هيئة تحرير الشام"
أرسل تعليقك