أعادت التطورات المتسارعة في سورية بعد انتهاء أعمال الجولة 13 في إطار “مسار آستانة”، تساؤلات كثيرة إلى الواجهة، في شأن الاستراتيجية الروسية، التي عمل الكرملين على بلورتها خلال 4 سنوات منذ بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في الحرب السورية، في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015.
وفور إسدال الستار على الجولة الأخيرة من المفاوضات بين ضامني آستانة، تلاحقت التطورات الميدانية والسياسية بشكل وضع الكرملين أمام استحقاقات جديدة. إذ حملت التفاهمات التركية - الأميركية حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري، تحديًا جديدًا لموسكو تزامن مع تزايد المؤشرات إلى قيام واشنطن بتكثيف الحضور في مناطق الشمال والشرق، بشكل مباشر عبر تعزيز قدرات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، أو غير مباشر من خلال التقارير الروسية التي تحدثت عن زج وحدات من شركات عسكرية خاصة (مرتزقة) في المنطقتين. تزامن ذلك مع انفجار الوضع مجددًا في إدلب، وعودة شبح “الحسم العسكري” إلى الواجهة بعد الانهيار السريع للهدنة الهشة التي أعلنت في إطار مفاوضات آستانة.
- صعوبات للكرملين
هذه التطورات المتسارعة لا تأتي في توقيت ملائم بالنسبة إلى الكرملين، الذي يعاني أصلًا خلال الفترة الأخيرة من صعوبات جدية على المستوى الداخلي؛ تمثلت في تصاعد مزاج التذمر والاحتجاجات على تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية وعلى الفساد وآليات إدارة السياسات الداخلية. وانعكست من خلال تراجع نسب التأييد للرئيس فلاديمير بوتين إلى أدنى مستوياتها منذ الفترة التي سبقت قرار ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. ومنحت أحدث الاستطلاعات حول نسب تأييد السياسات الداخلية لبوتين نحو 40 في المائة فقط، وهي نسبة غير مسبوقة بالنسبة إلى الرئيس الذي حصد العام الماضي أصوات نحو 80 في المائة من الناخبين في استحقاق الانتخابات الرئاسية، فيما عكست الاحتجاجات المتواصلة تقريبًا فقدان الثقة بالنظام الحزبي في البلاد الذي يقوده حزب السلطة “روسيا الموحدة”، وفقدان الثقة أيضًا بالسلطات المحلية في موسكو ومدن كبرى أخرى، كما في الأقاليم التي تعاني أكثر من غيرها من مشكلات الفساد والتسيب. كما برزت التحديات على المستوى الخارجي في بدء تفكك منظومة الرقابة على التسلح في العالم، مع انهيار معاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة وقصيرة المدى، ما أبرز احتدام الوضع على صعيد ضمانات الأمن الاستراتيجي، ووضع القيادة الروسية أمام تحدٍ قوي وسط مؤشرات إلى اندلاع ما وصف بأنه “سباق تسلح جديد”. يضاف إلى ذلك أن العلاقات الروسية - الأميركية التي كانت وصفت بأنها “وصلت إلى الحضيض” لم تبدأ وفقًا لتوقعات سابقة للكرملين في تجاوز أزمتها، برغم كل الآمال التي تعلقت باحتمال حدوث تغير في سياسة الرئيس دونالد ترمب بعد انتهاء المحقق الخاص بقضية “التدخل الروسي” مولر من تحقيقاته، وفشله في تقديم أدلة ملموسة على التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية. وخلافًا لما كان متوقعًا، واصلت واشنطن استخدام “سياسة العقوبات” للتضييق على موسكو، وتبعها في ذلك حلفاء واشنطن في الغرب.
- نقاش حول الاستراتيجية
اقرأ أيضا:
دميتري بيسكوف يُؤكّد أنّ ردّ فعل ترامب على دعوة بوتين كان بنّاءً
على خلفية هذه الأجواء المعقدة، كان للتأكيد على أهمية “الإنجاز” الذي تحقق في سورية أهمية خاصة، برزت من خلال التركيز في التصريحات والتغطيات الإعلامية الموجهة إلى الداخل الروسي على الأبعاد “الاستراتيجية” لنجاحات موسكو في الحرب، ورغم أن المزاج العام أظهر تراجعًا في نسب تأييد تحركات الكرملين على الصعيد الخارجي، خصوصًا في إطار الانخراط في الحرب السورية، فإن التفاوت ظل واسعًا وفقًا لأحدث استطلاعات الرأي بين تعامل الروس الانتقادي مع الوضع الداخلي، وتأييدهم سياسات الكرملين الخارجية الذي حافظ على معدلات عالية نسبيًا، وإن كان تراجع بعض الشيء عن الفترات الماضية. لكن “الإنجازات” التي تؤكدها موسكو لم تنعكس أصداؤها في جولات محادثات آستانة، وأظهرت نتائج الجولتين الأخيرتين تفاقم الصعوبات أمام الكرملين في دفع الملفات المطروحة من جانب موسكو، وحشد تأييد دولي وإقليمي حولها، خصوصًا على صعيد ملفي اللاجئين وإعادة الأعمار، في حين راوحت عملية تشكيل اللجنة الدستورية طويلًا. وخلافًا لتأكيدات سابقة، فقد تعمقت أكثر الخلافات بين روسيا وحليفيها الأساسيين في “مسار آستانة” تركيا وإيران. وأظهرت نقاشات جرت أخيرًا في إطار ندوة خصصت للبحث في الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، أن تقويم الوضع من جانب الخبراء الروس تغير جذريًا، من حديث في بداية التدخل المباشر في سورية عن “حملة سريعة هدفها تعزيز الحضور الروسي وترتيب موازين القوى لدفع عملية سياسية مقبولة” إلى “انخراط كامل في تعقيدات إقليمية ودولية، أسفر عن اضطرار الكرملين إلى زج كل قدراته في المسار السوري”.
بهذا الفهم يتعامل فريق من الخبراء الروس مع الفارق على المستوى الميداني بين الرؤية الأولى لحجم وطبيعة التدخل الروسي في سورية كما كان مرسومًا، واضطرار موسكو تدريجيًا إلى الانزلاق نحو “تورط” كامل في هذه الأزمة، انعكس من خلال زج الشرطة العسكرية ووحدات برية في أكثر من منطقة، فضلًا عن غض النظر عن استخدام وحدات من شركات مسلحة روسية خاصة في عمليات عسكرية واسعة النطاق. أما على الصعيد السياسي، فإن موسكو باتت تواجه صعوبة أكبر في المحافظة على توازنات القوى التي أقامتها في سورية، ومع التأكيد على أن روسيا “لن تقبل بعقد صفقات على حساب مصالح حلفائها” وفقًا لتشديد الرئيس فلاديمير بوتين أخيرًا، فإن تعقيدات التعامل مع التناقضات القائمة في رؤى روسيا وتركيا وإيران باتت أكثر وضوحًا أخيرًا، مع تداخل تأثير القوى الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
- مسار وتعقيدات
حملت نتائج جولة المحادثات السورية الأخيرة في إطار “مسار آستانة” إشارات واضحة إلى هشاشة التحالف القائم مع أنقرة وطهران، إذ إن الزخم الكبير الذي رافق انطلاقه في يناير (كانون الثاني) 2017 تقلص كثيرًا. ويواجه الموقف الروسي الرسمي صعوبة متزايدة في الترويج لـ”إنجازات” هذا المسار. تصر موسكو على رؤيتها حول أن “مسار آستانة” نجح في خفض التوتر في سورية وتوسيع رقعة وقف النار على غالبية الأراضي السورية، كما وضع، وهو الأمر الأهم من وجهة نظرها، الأساس لإطلاق العملية السياسية وفقًا للتأويل الروسي للقرار “2254”، بمعنى الانطلاق من “ضرورة الحوار بين كل مكونات الشعب السوري”، وهو أمر أطلقته موسكو في مؤتمر سوتشي في 30 يناير 2018 وانتقلت منه إلى النشاط المتعلق بتشكيل اللجنة الدستورية، متجاهلة البنود الأخرى في القرار الدولي، خصوصًا تلك التي تتحدث عن “عملية سياسية تفضي إلى قيام هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية”. لكن في المقابل، بدا أن المسار الذي عولت عليه موسكو كثيرًا، تحول منذ الجولة الرابعة له إلى ساحة للحوار بين موسكو وأنقرة وطهران، مع تراجع دور وأهمية حضور كل من طرفي الأزمة السورية: السلطة والمعارضة. ناهيك بالعنصر الأهم المتعلق بمسألة “وقف النار”، إذ شهدت “مناطق خفض التصعيد” أوسع عمليات قتالية لم تُبقِ من تسميتها شيئًا، ومع نجاح موسكو وطهران في مساعدة النظام على بسط سيطرة كاملة على هذه المناطق لـ”تخرج من أجندة الحوار بسبب انتهاء المشكلة فيها”، وفقًا لما قاله الوزير سيرغي لافروف بعد السيطرة على الغوطة الشرقية. لكن الأطراف أخفقت في وضع أجندة مشتركة للخطوات اللاحقة، وهو أمر برز في تعثر محاولات التقدم على المسارات المختلفة وبروز المشكلات الجدية بين أطراف المسار.
وتبدو الهواجس الإيرانية من احتمال أن تقدم موسكو على مقايضات حول الوجود الإيراني في سورية، أكثر وضوحًا من الفترات السابقة، رغم تأكيد موسكو رفضها مبدأ “الصفقات”. كما أن الصراع على النفوذ في عدد من المناطق السورية بدا واضحًا خلال الفترة الأخيرة. أما مع “الحليف” التركي، فالمشكلة أكثر تعقيدًا، فمن جانب تسعى موسكو وأنقرة إلى إظهار عمق وقوة التعاون، الذي اتخذ بعدًا جديدًا ومهمًا بعد صفقة “إس400”، لكن من جانب آخر، راقبت موسكو بحذر الحوارات التركية - الأميركية حول مسألة “المنطقة الآمنة” في الشمال، وأبلغت الجانب التركي رفضها أي خطوات أحادية في هذا الشأن، كما أن معضلة إدلب ما زالت تشكل نقطة خلافية كبرى، ويدفع التصعيد العسكري الحاصل حاليًا حول إدلب إلى تكهنات بشأن مزيد من التعقيدات في العلاقة بين موسكو وأنقرة. بهذا المعنى، فإن ما تبقى من “مسار آستانة” وفقًا لآراء خبراء هو الحاجة المشتركة لكل من طهران وموسكو وأنقرة إلى التمسك بـ”آلية العمل المقبولة للأطراف الثلاثة”.
- المنطقة الآمنة وآستانة؟
فور الإعلان عن توصل واشنطن وأنقرة إلى تفاهمات حول إنشاء غرفة عمليات مشتركة في منطقة الشمال، ما يعني إطلاق عملية تأسيس “منطقة آمنة” على طول الحدود التركية - السورية، طرحت وسائل الإعلام الروسية الكبرى أسئلة حول مصير “مسار آستانة”، ورأت أن هذا التطور ستكون له آثار مباشرة وقوية، على العلاقة بين موسكو وأنقرة في الملف السوري تحديدًا. ورغم أن موسكو تجنبت على المستوى الرسمي المسارعة في التعليق على التطور، وهو أمر فسره مراقبون بأنه هدف إلى استطلاع آليات التنفيذ ومدى تأثير التفاهم في تحولات العلاقات بين أنقرة وواشنطن، لكن أوساطًا دبلوماسية روسية تحدثت إليها “الشرق الأوسط” لم تخفِ قلقها بسبب التطور، وقالت إنه “يضع واقعًا جديدًا في منطقة الشمال السوري، لا يقتصر على منح الوجود الأميركي غير الشرعي وضعًا مختلفًا، لكنه يزيد أيضًا من تعقيدات بلورة ملامح التسوية السياسية النهائية في سورية”.
وتعكس العبارة خيبة أمل روسية عميقة بسبب تجاهل أنقرة الدعوات الروسية المتكررة حول ضرورة العمل بشكل مشترك، وعدم القيام بتصرف أحادي الجانب، خصوصًا أن المسؤولين الروس شددوا أكثر من مرة على تفهم موسكو الحاجات الأمنية التركية، وضرورة حصول أنقرة على ضمانات كاملة في هذا الشأن.
وكانت موسكو تفضل دفع تركيا إلى مسار آخر، يقوم على فتح قنوات اتصال بشكل مباشر أو غير مباشر مع دمشق، للتفاهم على الترتيبات الأمنية المطلوبة للجانبين، وطرحت رؤيتها حول ضرورة العودة إلى “اتفاق أضنة” المبرم بين دمشق وأنقرة في عام 1998 كونه يشكل “أساسًا للتفاوض”، بمعنى أن موسكو لم تكن تعارض أن يتم توسيع هذا الاتفاق الذي يمنح أنقرة حق التوغل لمسافة 5 كيلومترات داخل الأراضي السورية لضرورات مواجهة الخطر الإرهابي. ويفضل الخبراء الروس عدم إعطاء تقويمات لطبيعة التحرك الروسي اللاحق، بعدما غدا الاتفاق التركي - الأميركي أمرًا واقعًا، لكن بعضهم نبه إلى رهان روسي على أن التفاهمات التركية - الأميركية سوف تفشل ولن يكون من الممكن تنفيذها عمليًا، بسبب تضارب المصالح، والتحالفات، والرؤية النهائية للوضع في المنطقة بين الجانبين. لكن في المقابل، يرى جانب آخر من المراقبين أن التصعيد الحاصل في إدلب، يشكل واحدة من آليات الضغط الروسي على أنقرة، وأن موسكو تفضل استعادة الحوار مع الجانب التركي حول آليات مشتركة لتسوية الملف الأمني في الشمال، بدلًا من الاعتماد على تفاهمات “غير قابلة للتنفيذ” مع واشنطن. وبانتظار أن تتضح الملامح النهائية للتحركات المقبلة، يبدو أن مسار آستانة يواجه أكبر ضربة جدية، ما دفع معلق في صحيفة روسية كبرى إلى أن يتوقع قبل يومين أن الجولة 13 في هذا المسار، قد تكون آخر الجولات التي يجري فيها حوار ثلاثي بين موسكو وطهران وأنقرة.
وفي ظل الشكوك التي تحيط بعلاقة موسكو وأنقرة، على خلفية تأكيد الطرفين عمق واستراتيجية التعاون من جانب، وبروز ملفات خلافية واسعة من الجانب الآخر، فإن الاستحقاق الآخر الذي تسعى موسكو إلى التعامل معه وفقًا لرأي خبير في مجلس السياسة الخارجية الروسي هو وضع آليات جديدة للنقاش مع الولايات المتحدة حول الوضع في سورية
قد يهمك ايضا:
الكرملين يرد على ترامب بشأن التحرّك العسكري في إدلب
الإدارة الأميركية تواصلت مع الكرملين بعد إلغاء لقاء بوتين وترامب
أرسل تعليقك