برع تنظيم "داعش" في تصوير عنفه بطريقة هوليودية، بلغت الذروة في البشاعة، في مثل حوادث الإعدام بالذبح والحرق والنسف والإغراق، إلا أن مج تمعات إسلامية وعربية تعايشت مع تلك المشاهد، باعتبارها أمرًا واقعًا، وبدلًا من أن تجد مقاطعة اجتماعية تلفزيونية، كانت تلك المشاهد الفتاكة، دائماً الأكثر مشاهدة، وفق قوائم الصحف والمواقع الإلكترونية.
غير أن اللافت، أنه ما أن تعالج تلك الفظائع، على هيئة "دراما" أو كوميديا سوداء، حتى تنتفض شرائح متباينة تندد بالصورة الزاهية للسنة أو الشيعة أو جماعات من بينها، وتصب جام غضبها على العمل الذي جاء قصد مواجهة ومكافحة الفعل الإرهابي الأصلي، الذي قتل وشرد وشوه المجتمعات المسلمة، وهدد العالم أجمع. تكرر ذلك في كل الأعمال الدرامية في مثل "الحور العين"، و"طاش ما طاش"، و"سيلفي"، وغيرها، وأخيراً "غرابيب سود".
بل إن الحملة ضد هذا النوع من الأعمال، لم تقتصر على الإرهاب، ولكن أيضاً اتخذت موقفاً للأسباب نفسها، يناهض الأعمال الدرامية، التي تعرّف بالإسلام ورسالته عبر الشخصيات العظيمة مثل الأنبياء والصحابة والتابعين، وعبر الذريعة نفسها: تشويه الصورة، وتقديم الرموز على شكل لا يتوافق مع حقيقتها. وتقاطعت شرائح من هذا الصوت مع فتاوى دينية متشددة، وتنظيمات متطرفة، راح ضحيتها عراب هذا النوع من الدراما الدينية والتاريخية، مصطفى العقاد في الأردن 2005 وهو الذي أنتج فيلمي الرسالة، وعمر المختار، التي يفاخر بها معظم المسلمين والعرب. ولا فرق في هذا النهج بين السنة والشيعة، ففي الوقت الذي تحمل بعض هذه الشريحة على "غرابيب سود" الذي يعالج إرهاب داعش في جانبه النسائي، على أنه يشوه المرأة السنية ويقدمها على نحو لا يليق بها بحسب قولهم، نددت أطراف من الشيعة كذلك بحلقات في مسلسل "سيلفي" عالجت بعض الازدواجية لدى الشيعة في مثل حلقتي "زواج ليبرالي والسوسة"، ما أحوج بطله ناصر القصبي إلى الخروج عن الصمت، وحياده الفني المعتاد ليقول: "نحن اجتهدنا وما زلنا، ويبقى واجباً على الطرف الشيعي (فنانين ومثقفين)، أن تكون مواقفهم أكثر وضوحاً وجرأة وشجاعة في مناهضة الإرهاب".
وكان بذلك يؤازر قولاً لكاتب سعودي آخر هو رجا ساير المطيري، علق على حلقة "السوسة"، قائلاً: "الفنانون السنة وعلى رأسهم ناصر القصبي كانوا أكثر شجاعة في التصدي للتنظيمات الإرهابية السنية. نتمنى من الفنانين الشيعة أن يقتدوا به".
الجديد في نهج الرفض هذا، أنه أخذ طابعاً استقطابياً دولياً هذه المرة، وأيضاً في صورة نقد فني، وربما تزيا تارة بتصفية الحساب بين المتنافسين من أبناء المهنة، إضافة إلى "الخشية من التأويل" وتنزيل المشاهد الدرامية على محيط بعينه.
ففي جانب الاستقطاب، وظفت قناة مثل "الجزيرة"، الخلاف الناشئ لها مع دول الخليج، في تشويه مسلسل "غرابيب سود"، وأججت المعارضة الاعتيادية نحو هذا النوع من الأعمال سعودياً، ورفعت سقف التهمة إلى "طعنة في ظهر الإسلام"! في سياق تقرير، تعبت على ترويجه على منصاتها المتعددة كثيراً، وكان أحد المفردات المهمة في مباراة "الشيطنة" إلى آخر "البلاوي المتلتلة" على قول المصريين.
بينما في سياق تنزيل المشاهد على محيط أو جهة، كان ما يهم المعلقة المغربية في صحيفة واسعة الانتشار هنالك أن "أغلب أبطال المسلسل شيعة، وتم التصوير في لبنان من طرف مخرج وشركة مقربة من حزب الله الشيعي هذا كله لا إشكال. المسلسل قالوا إنه يناقش الإرهاب ممتاز، ركزوا على جهاد النكاح والمخدرات"، إلى أن تقول بالدارجة المحلية: "حطو في الشارة ديال المسلسل صور شهداء وضحايا لهجوم بشار الأسد ونسبوهم لداعش، مدام بغاو يحارب الإرهاب يصور كلشي إرهاب بشار وحزب الله في سورية، وإرهاب الحشد الشعبي في العراق في قتل السنة وتهجيرهم".
ويذهب محمد سعادة من سورية، إلى النقيض مما ينتقد الخليجيون والمغاربة على المسلسل، فيراه أخطأ حين صور الخليجيين ضحايا الإرهاب في المسلسل، وقال: "إظهار المواطنين من الخليج على أنهم ضحايا مغرر بهم، وأنهم مجرد مقاتلين أو حملة شهادات، فذاك طبيب وذاك إعلامي جاء يبحث عن ابنته، وتلك جاءت تريد الزواج، وسيندمون ويصبحون ضحايا يتعاطف المشاهد معهم، والحقيقة عكس ذلك فكل الإحصاءات تقول إن أغلب الانغماسيين والانتحاريين هم من دول الخليج من المراحل العمرية كافة".
أما في السعودية، حيث امتداد القناة الأصلي فإن الصراع أكثر وضوحاً، فعلى رغم وجود شرائح تنتقد العمل من دون خلفية آيديولوجية أو تؤيده، إلا أن الأصل في الجدل، أن تيارات معينة اتخذت موقفاً عدائياً من الشبكة لأسباب مشهورة، فيما تظل الأغلبية الصامتة متمسكة بمشاهدتها، مسجلة في كل عام هي وبرامجها أعلى الأرقام مشاهدة، ما مكنها من تحقيق مردود إعلامي واقتصادي نادر، خصوصاً في مرحلة تشهد كساد الإعلان التجاري التقليدي.
ويعزو الكاتب السعودي منصور النقيدان، الحملة تلك إلى "اللعب على العاطفة واستثارة الحمية المناطقية والطائفية والإقليمية عبر التلاعب بالانتماءات الوطنية وإظهار العمل على أنه استهدف السنة، واستهدف منطقة أو مدينة أو حياً معيناً. وعززت الحملة ذلك بمن وصفتهم بأنهم شيعة أشرفوا على العمل".
وزاد: "كانت الحملة التي وراءها حركيون ومتعاطفون مع داعش تسعى إلى تفريغ العمل من رسالته الأخلاقية، وفي مثل المجتمع السعودي والخليجي يمكن لهذا الهراء أن يؤثر".
أما المشرف على العمل الكاتب السعودي عبدالله بن بجاد فأقر بأنه على رغم وجود حملة منظمة اعتاد عليها العاملون في هذا الحقل من جماعة الإسلام السياسي، إلا أنه "ليس كل من ينتقد هذه الأعمال هو بالضرورة ينتمي لهذه الفئات (التيارات المتشددة والإرهابية) فهناك من ينتقدها فنياً، ومن ينتقدها لأنه كان يريد إظهار حقائق أكثر عن بشاعة الإرهاب، وهناك من يريد التركيز على أبعاد معينة لم يجدها بالمستوى الذي يراه، أو لأسباب أخرى شبيهة، والنقد يزيد من جودة الأعمال ويصحح الأخطاء ما لم يكن نابعاً من أجندة تختلف عن هدف هكذا أعمال وهو فضح الإرهاب".
وكان "غرابيب سود" مسلسل درامي ضخم بدأ عرضه في شهر رمضان، ويسلط الضوء على العناصر النسائية في تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش): نساء يجنّدن، يتدرّبن ويقاتلن، يفرضن أحكاماً مشدّدة، ويفجّرن أنفسهنّ.
وللمرة الأولى في العالم العربي (بحسب أ ف ب)، يصور عمل تلفزيوني على مدى شهر وبكلفة بلغت أكثر من 10 ملايين دولار، تفاصيل الحياة اليومية في ظل "دولة الخلافة"، مستمداً أحداثه من قصص واقعية. ويبث على قناة "إم بي سي"، ويصور في إحدى حلقاته كيف أن قرية يسيطر عليها تنظيم "داعش"، تقوم جدة منقبة مع حفيدتها ببيع أواني زجاجية، وتدخل مجموعة من النساء المسلحات إلى المتجر لتدقق في ما يتم بيعه.
وتلاحظ قائدة الدورية أن الأواني تحمل صور حيوانات، فتطلب من الجدة عدم بيعها بحجة أنها "حرام"، فترفض العجوز، وتتمسك ببيعها، على رغم مطالبة حفيدتها لها بأن تنصاع إلى الأمر. وفجأة، تسحب قائدة المجموعة المسلحة "أم الحارث" مسدسها، وتطلق النار على الجدة فتصيبها برأسها وترديها، ثم تغادر المتجر.
أرسل تعليقك