بعد 34 عامًا على انقضاء خدمته في الجيش، اضطر المراسل الحربي البريطاني مارتن بيل أن يرتدي البزة العسكرية من جديد ويتوجه برفقة الجيش البريطاني إلى الكويت لتغطية حرب الخليج عام 1991، حفر خنادق بيده وتقمص دور الجندي والصحافي معًا، وعند عودته، قطع وعدًا أن يغطي الحرب التي تليها بصفته مدنيًا، الزي الجديد: بدلة بيضاء، والسبب: "الوسوسة"، أما النتيجة: فلقب "الصحافي ذو البدلة البيضاء" ومسيرة 3 عقود غطى فيها 18 حربًا، البدلة كانت شاهدة على قتال الميدان وعلى اجتماعات تحت قبة البرلمان وعلى مهمات إنسانية مع اليونيسيف، وارتداها عندما قابلته بحديقة منزله في شمال لندن الأسبوع الماضي.
مع أنه مر بتجارب كثيرة كادت تقتله، اتجه بيل إلى كل حرب وهو على يقين بأنه سيعود منها سالما، وبعد سنوات من نقل الصورة من ميادين القتال إلى الشاشة الفضية، قرر الصحافي العسكري أن يخوض معركته الخاصة تحت قبة البرلمان البريطاني، ونجح في عهد توني بلير بصفته عضو البرلمان المستقل الوحيد، وخاض حملة لحظر القنابل العنقودية، مستعيرا من خبراته السابقة، وأضحى اليوم سفيرًا لليونيسيف يتوجه إلى مناطق النزاع، بعيدًا عن التقارير والمنافسة، وقريبًا من الضحايا والمتضررين.
متحدث لبق بذاكرة حديدية، عفوي ومتواضع رغم إنجازاته، لم يقاطعني إلا مرة واحدة، ليسقي قطة الجيران التي تسللت إلى حديقته بعض الحليب، الحرب لم تحجر قلبه، بل صقلت الإنسان في داخله، هذا هو مارتن بيل وفيما يلي نص الحوار:
في البداية تحدث عن ارتداء البدلة البيضاء دائمًا، حيث قال :" لدي نوع من "الوساوس"، اضطررت لارتداء الزي العسكري كمراسل في حرب العراق بعد 34 عاماً، واضطررنا كصحافيين أن نحفر خنادقنا بأيدينا، بعد نهاية الحرب وعدت نفسي أن في تغطية الحرب التالية سأذهب إليها كمدني، وكانت الحرب في كرواتيا في يونيو (حزيران) 1991، ارتديت بدلة بيضاء، لم تصيبني رصاصة طائشة، فربطت بين لون البدلة وسلامتي، هكذا أصبحت البدلة البيضاء لاحقا الأمر الذي يميزني عن الكم الهائل من الصحافيين، فعرفت بالرجل أو الصحافي ذي البدلة البيضاء".
وأكد أنه يدين لوالده المجمع الأول للكلمات المتقاطعة في صحيفة "التايمز"، عن معجمه اللغوي الواسع، حيث قال :" كنا عائلة أدبية، جدي كان محرر الأخبار في صحيفة "الأوبسيرفر"، وشقيقتي كانت المترجمة لكتب "استريكس آند أوبليكس" الفرنسية، إذن الكلمات هي مصدر رزق عائلة "بيل"، مضيفًا :"منذ سن الثامنة كنت أبحث عن الجواسيس لأنها كانت محط تركيز الكتب التي كنا نقرأها بعد الحرب كأطفال، لم تكن لدي فكرة بأنني سأكون مراسلا حربيا لكن الـ"بي بي سي" حينذاك، كان كادر مراسليها ضيقا، ولو اندلعت حرب آنذاك فإن المراسل الأقرب إلى مطار هيثرو كان يكلف بمهمة التغطية، وإن كانت تغطيتك جيدة ولم تشتبك مع المكتب الرئيسي في لندن سترسل لتغطية حرب أخرى، لاحظت بعد فترة أنني أمضيت نحو 3 عقود في تغطية الحرب تلو الأخرى من دون أن أعي ذلك، وكأن ما حدث لي دون علمي".
وعن تعلم فن "البقاء على قيد الحياة" خلال فترة الجيش، أوضح :" كان مفيدًا خصوصا في حرب الخليج التي أرسل مجموعة من المراسلين الحربيين إليها لمرافقة الجيش البريطاني، من المفيد أن يعي الجنود أنك جندي سابق، الخبرة السابقة أغنتني عن طرح تساؤلات عن الفرق بين الكتيبة واللواء وغيرهما، كما كنت دقيقا عند مخاطبة الجنود في تمييز رتبهم احتراما لهم، ما سهل التعامل معهم، ومصوري آنذاك كان جنديا سابقا من جنوب أفريقيا، في الواقع عندما التحقنا بالجيش كمراسلين خلال حرب الخليج، كنا على دراية بالأمور العسكرية أكثر من الجنود نفسهم، ولذلك عاملونا باحترام، مشيرًا إلى أنهعام 2003 عند اجتياح العراق، أصبح معارضاً لظاهرة دمج الصحافيين الحربيين بالجيش لأن الصحافيين مع التطور التكنولوجي أصبحوا مهووسين بالحرب والقتال كأنها مغامرة، لكن الحرب في الحقيقة هي مأساة".
وتابع أنه كملحق إعلامي مع الجيش" شعرت بأنني بين المراسل والجندي، للالتحاق عليك التضحية بحريتك وإطاعة الجنود والذهاب حيث شاءوا، كما أنك معرض لمعايير رقابتهم، وترى جانبا واحدا من القتال، ذكرتني التجربة بتغطيتي لفيتنام، مع أني لم أكن ملحقا بالجيش وكان بإمكاني الذهاب إلى أين شئت، عام 1967، إلا أن تغطيتي لم تشمل الجانب الفيتنامي، كانت كلها عن الجنود الأميركيين، واليوم أصبحت الحروب أكثر خطرا، وهذه الطريقة الوحيدة لتغطيتها، فعلى سبيل المثال إن أراد مراسل حربي تغطية حرب تحرير الموصل الآن فالطريقة الوحيدة هي مرافقة الجيش، ومعظم الصحافيين الذين يذهبون لتغطيتها منفردين يدفعون حياتهم ثمنا، برأيي ينبغي على الصحافيين الابتعاد عن معاقل "داعش"؛ لأنهم سيخطفون ويقتلون فورا، ولذلك، لم نر للأسف تغطية حية للمعارك في الرقة"، مستطردًا "يجب عدم الذهاب إلى دخول المناطق السائبة أو منزوعة السلاح لأنها منطقة قد يطلق أي جانب متعارك فيها النار عليك، أسوأ تجربة لي هي قيادة سيارة على مدرج الطائرات بمطار سراييفو وجرى إطلاق النار، إلا أنها كانت مصفحة، أن تكون تحت إطلاق النار في الحقيقة، ليس أبدا كما تظهر الأفلام، الصوت كتساقط قطرات المطر وليس عاليا، في بادئ الأمر ظننت فعلا أن المطر يتساقط إلا أنه تبين لي أن رصاصا استهدف المركبة، لم أصب في هذه المرة، لكن العبرة هي تفادي المناطق المنزوعة السلاح".
وأوضح أن حرب البوسنة هي حبه الوحيد فقال :" بالتأكيد، بلاد جميلة، وأمضيت وقتا طويلا فيها، هذه الحرب استمرت عامين ونصف العام، وأنا شهدت الحرب بعد اندلاعها بيوم، وكنت حاضرا حتى النهاية، كما أصبت هناك، أحببت الناس والشعب"، مضيفًا " أثناء الحروب كان في شنطتي مصباح يدوي ودفتري الأسود الصغير، ومقتنيات تجلب لي الحظ مثل قطعة من جلد أفعى وعملات نادرة، إلى جانب مشبك لأجمع فواتيري رباط حذاء احتياطي وضعف المال الذي كنت أحتاجه، ونصف كمية الملابس، وقصائد ويلفرد أوين الذي كان يكتب ليرافق من كانوا على قيد الحياة في الحروب، ويعبر عن أسفه لوقوعها، وتأثرت بقصائده وكان التركيز في معظم تغطياتي الأخيرة للحروب لإيضاح أسفي لوقوعها وعن تراجيديتها".
وأستطرد بقوله :"المراسلون الحربيون على يقين دائم بأنهم سيعودون من الحروب، هذه جزء من سيكولوجيتهم للتعامل مع الموقف، وإن لم نفعل هذا كنا سندفع إلى الجنون، لا أبداً، تعرضي للإصابة في حرب البوسنة جعلني متوترا، تركت المركبة المحصنة لوقت طويل وضربتني قذيفة هاون وأصبت في أسفل بطني وأردتني أرضا، تميزت عن المراسلين الحربيين الآخرين لأنني أصبت بقذيفة صربية وسرقني الفرنسيون في اليوم ذاته، فعند نقلي إلى المشفى الذي أداره الفرنسيون آنذاك في مقر الأمم المتحدة واستيقظت بعد زوال مفعول المخدر لم أعثر على نقودي ولا حتى جواز سفري، لكنني كنت على قيد الحياة، ولم تؤثر في السرقة"، موضحًا :" لا أعرفكم من مرة خضت تجربة كادت أن تنهي حياتي، لكن من المرات التي أتذكرها هي عندما كنت على شرفة في سراييفو أثناء تصوير قطعة للكاميرا، واحتدم إطلاق النار، فاضطررنا لتأجيل التصوير والدخول، وعندما شاهدنا التصوير لاحظنا أن رصاصة طائشة اقتربت من رأسي وكادت تقتلني.
وواصل :"أرفض مشاهدة تغطياتي الأولى لأن جميعها يتبع نهج السينما آنذاك، اللهجة الأرستقراطية والرواية التي تقتصر على شرح عظمة المعدات العسكرية، لكن الترسانات لم يكسب الأميركيون حرب فيتنام بها، فبرأيي الأفكار هي التي تدير الحروب والقدرة على الحفاظ على تلك الأفكار هي المفتاح لكسبها، لا أعتبر نفسي مسالما كليا أو من المدرسة المعارضة كلياً للحروب، لكنني حرصت في تغطياتي اللاحقة أن أركز على العنصر الإنساني للحروب، على الجنود والمواطنين، وكيف تأثر ويلات الحرب عليهم، الحروب تصنع الرجال أو تحطمهم، حيث يعاني كثير من العسكريين ومراسلي الحرب من اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية (PTSD)، عقل الإنسان غير مؤهل للتعامل مع دموية الحروب",
وعن أسباب ترحيله من لبنان خلال الحرب الأهلية، قال :" حدث في بداية الحرب الأهلية، لم تكن الأقمار الصناعية متاحة آنذاك،كان التحدي الأكبر إيصال تسجيلات التغطية إلى مكان مناسب للبث، كنا نرسل بعض الأشرطة براً إلى دمشق، لكن في هذه الواقعة حاولت تهريب الأشرطة على متن قارب إلى قبرص لكن جواسيس في فندق "الكومودور" في بيروت كشفوا سرنا وتم اعتقالنا وترحيلنا"، وتابع :"غطيت حرب 1967 (نكسة حزيران) وحرب 1973 (حرب أكتوبر "تشرين الأول")، وكنا نسافر 300 ميل لإنتاج تقرير خبري مدته 3 دقائق، أذكر يوما أنني سافرت إلى سيناء وكان هناك حاجز واضطررنا إلى العودة بعد رفض الحرس أن نعبر".
وأشار إلي موقفه من القضية الفلسطينية - الإسرائيلية، بقوله : في بادئ الأمر كنت مأخوذا بإسرائيل، لكن اليوم أصبحت من أكبر منتقديها، وأرفض أن تطأ قدمي هناك مجددا، وأعتقد أن استخدام الدولة للذخائر العنقودية في جنوب لبنان كان جريمة حرب لا يمكن الدفاع عنها"، مضيفًا ان السبق الصحافي الأكبر مناطق النزاع "كان اكتشاف مجزرة في منطقة وسطية في البوسنة كنت مع قوات أممية آنذاك، عثرنا على أكثر من 100 شخص قتلوا رميا بالرصاص وهم يحاولون الفرار أو جرى حرقهم داخل المنازل، كان المنظر دمويا، وضاقت في الكلمات لكتابة نص خبري لروايته، اضطررت لأن أعتمد لقطات معينة ملائمة للعرض التلفزيوني لئلا ترفض غرفة أخبار "بي بي سي" عرض التقرير".
ووصف شعور التعرض لقنابل مسيلة للدموع أثناء تغطية المظاهرات، بقوله :" لا زلت أحتفظ بإحدى العبوات التي أدمعتني أثناء تغطيتي لاحتجاجات شيكاغو المناهضة لحرب فيتنام عام 1968 أثناء مؤتمر الحزب الديمقراطي، حرصت على جمع الرصاصات وعبوات الغاز وغيرها من مخلفات كل ما غطيت، وأعتبرها كتذكارات شاعرية تعيدني إلى تلك اللحظات التي عشتها وأحتفظ بها إلى اليوم، وعلى كل صحافي ومراسل فعل ذلك لو أراد أن يكتب مذكراته يوما"
وفي جوابه على سؤال هل هناط تشابها بين رونالد ريغان ودونالد ترمب، قال :"لا بتاتا، ريغان كان يستمع للآخرين، وكانت لديه تجربة سياسية سابقة، حيث كان حاكم كاليفورنيا، وأحاط نفسه بمفكرين وأذكياء، كما كان صانعا للسلام، وهو السبب وراء إنهاء الحرب الباردة"، كما تحدث عن شهادته في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لمحاكمة جرائم الحرب التي المرتكبة خلال الحرب، فقال:"كان هنالك سجال بين الصحافيين في حينها حول مثولنا أمام المحكمة، جميع المراسلين الأميركيين قرروا الامتناع عن المثول حتى كريستيان أمانبور لدى "سي إن إن" كانت منهم، وتبريرهم هو أن المشاركة ستؤثر على حيادهم الصحافي كما ستهددهم أمنيا، لكننا كصحافيين بريطانيين قررنا المثول، استمعت المحكمة إلى شهادتي 5 مرات، والتقيت بالزعيم الصربي السابق رادوفان كاراديتش في زنزانته بناء على طلبه، وتبادلنا أطراف حديث لطيف ووصفني بـ"الثمين".
وأوضح أن"دور الصحافي هو أن يروي القصة كما هي بحقائقها، وهذا ما يقلقني اليوم مع ظهور الأخبار الزائفة، ظننت أننا كنا نعرف ما هي الأخبار وما هي الحقائق، لكن الآن هناك حملة لتضبيب رؤيتنا الأمر الذي يقلقني، برأيي تغطيتهم لاستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان عديم الفائدة، واقتصر على تغطية مؤقتة لـ"من هذا الجانب، ومن الجانب الآخر"، وكم كبير من حجج الخروج كانت مليئة بالأكاذيب، مثل قيمة الأموال التي تدفعها بريطانيا للاتحاد أسبوعيا كانت غير دقيقة، لا يستهويني هذا النوع من التغطية، الصحافي لا يستطيع أن يقف بموضوعية بين المهاجم والضحية"
واستكمل بقوله :"-أنا قلق جدا من انتشار الأخبار الخفيفة التي تركز على المشاهير والأمور السطحية، لا نرى تغطية للقارة الأفريقية اليوم، التكنولوجيا باتت تشير لمديري المواقع الإخبارية بأن الأخبار الخفيفة هي الأكثر قراءة، فأصبحت تنشر بكثافة على حساب الأخبار المهمة" مشيرا الى أن بعض صحافيون اليوم يحاولون إعادة إحياء الأخبار، مثل مات فراي (القناة الرابعة)، ليز دوسيت (بي بي سي)، جيريمي بوين (بي بي سي)، جون سنو الذي كان منافسي، وكريستيان أمانبور (سي إن إن) وغيرهم، لكن في المقابل "المحتالون" كثر".
وقال إنه لا يملك أي حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، موضحًا :" لا أفهم "السوشيال ميديا" ربما لتقدم سني، استطعت أن أخوض مسيرة 3 عقود في الـ"بي بي سي" من دون استخدام الكمبيوتر مرة واحدة إلا لأغراض الطباعة عندما أصبحت الكاتبة قديمة الطراز، يمضي الصحافيون اليوم معظم نهارهم أمام الشاشة، ومكانهم الطبيعي في الخارج بحثا عن القصص".
وعن النقلة من الميدان إلى البرلمان، قال :" كانت سهلة نوعا ما لأنني اكتسبت خلال سنواتي كمراسل مهارة التعامل مع الصحافة والصحافيين، واعتمدت على منصبي الجديد لإثارة مواضيع مهمة خلال جلسات البرلمان، وبالحقيقة لا لم أشعر بذلك إلا في أيامي الأخيرة، تركت البرلمان قبل أن ينتابني الغرور، وحتى عرفت بعد انتخابي ونجاحي بوقت وجيز أثناء زيارتي لقصر باكنغهام أن الملكة إليزابيث وزوجها الأمير فيليب دوق ادنبره كانا قد وضعا رهانا على نجاحي، وآمل أنها راهنت على نجاحي".
وتحدث عن إثارة قضية الذخائر العنقودية فقال :"مع أنه من الصعب أن تجد شخصا يبرر استخدام القنابل العنقودية، فإن قضيتي لم تكن على رأس أولويات البرلمان البريطاني، لكنني سافرت إلى جنيف عندما كنت عضوا في البرلمان لحشد دعم من الحكومات للتوقيع على مشروع قرار لحظر تلك القنابل، كنت البرلماني الوحيد ذات خبرة حديثة في الحروب، لم يعرف معظم أعضاء البرلمان أي شيء عن المنظومة العسكرية، لذلك استغللت منصبي للحديث عن كثير من القضايا الدفاعية"، مواصلا عن عمله سفير لليونيسيف: "سافرت في مهمات إلى العراق ولبنان واليمن، وكانت تجارب مؤثرة، شعرت بإنسانيتي من خلال تلك المهمات، وكنت سعيدا بأنني أصبحت معفيا من مواعيد تسليم التقارير والضغط والمنافسة بين القنوات والصحف، بل أخذت وقتي في جمع المعلومات والقصص الإنسانية، وأخرجت تقريرا شاملا عند عودتي ليعرض على "بي بي سي" أو إحدى القنوات الأخرى، وكما أخرجت أيضاً تقريرا لصحيفة "صاندي ميل"، لم أتقاض أجرا لكنني شعرت بالاكتفاء".
أرسل تعليقك