واشنطن - العرب اليوم
يترجم وثائقي «تأثير مارثا ميتشل» (The Martha Mitchell Effect - نتفليكس) ما تعنيه نظرية المؤامرة وتلفيق التهم. فزوجة النائب العام والمستشار المؤتمن للرئيس الـ37 للولايات المتحدة ريتشارد نيكسون المنتخب عام 1968؛ جون ميتشل، وُصفت بأنها «خطر كبير». كانت واشنطن مدينة يهيمن عليها الذكور ويديرها رجال بيض في «البيت الأبيض». برفض مارثا ميتشل الالتحاق بنساء ينتقلن إلى الغرف المجاورة لشرب القهوة حين يتناول رجالهن شؤون السياسة، تعدّى دورها الزوجة التي تجلس صامتة في الخلفية.
الوثائقي المرشّح لـ«الأوسكار» يكشف ما يتكبّده المدافعون عن الحقيقة عبر التاريخ. تحلّي مارثا بشخصية جريئة ورفضها السكوت حين يستدعي الموقف كلامها، أفشلا طمس فضيحة «ووترغيت»، لكن صرخة الحق كلّفتها هناءها.
لسانها السليط وموهبتها في الخطاب ووقوفها الجريء أمام فضول الصحافة، سرّعت شهرتها لتصبح الشخصية المحورية المثيرة للاهتمام. لمست تأهّب الناس في كل مرة يتقرر حضورها إلى عشاء في «البيت الأبيض»، فنساء عصرها كنّ أكثر تحفّظاً، على عكسها. لم ترق نيكسون النساء الصاخبات، واختلط عليه الأمر بين مزاحها وجدّيتها. رمقها بنظرات استغراب. ذاع صيتها لإجرائها اتصالات حكومية في ساعة متأخرة من الليل، واقتحامها ما يخشى سواها الوقوف على عتبته.
براعتها في توجيه الرسائل أبقت الرئيس على أعصابه. فرغم تأييدها له، تعذّر عليه تقييدها. وكما أنّ زوجها اقتصرت سيطرته على واحدة من اثنتين، أقوالها أو أفعالها، حصرت نيكسون في الحذر وشغلت باله. ظلّ الرجل المتوجّس من امرأة والقلِق من لسانها.
رأى فيها الأميركيون أنفسهم، واحتفت الصحف بـ«مارثا المذهلة التي تنطق بالحكمة». شهرتها السريعة جعلتها «تضرب المدينة كقنبلة»، لكن السمّ تربّص بمائدتها ولم تخرج سالمة من مطبخ المؤامرات.
فتح مذيعٌ «باباً من المتاعب» بسؤالها عن التأثير الكبير لريتشارد نيكسون على حياتها ويده في تحطيم زواجها. عاشت والنائب العام جون نيوتن ميتشل حياة ميسورة في مجمّع شقق «ووترغيت» بواشنطن. قيل عنه إنه ثاني أقوى رجل في العاصمة، ولقربه من الرئيس راح يتعامل مع بعض القضايا الحساسة. تسببت إجاباته برفع قهقهات الحاضرين في مؤتمراته الصحافية كلما سُئل عنها. كأن يتلقّى سؤالَ «هل اللقاء بها كان وفق موعد مدبّر؟»، بالرد: «من الواضح أنّ التدبير مُحكم، فقد كُتب لنا التوفيق». تهيَّبها، ولم يستطع ردع وهجها.
فرضت عليها مكانتها في واشنطن متطلّبات وتوقّعات لا تبلغها نساء المسؤولين. تبتسم للصحافيين وتلقي خطاباً عن رغبتها في إضفاء مزيد من الحب على العالم وتحسين علاقات أميركا بالدول الأخرى. أصبحت تُعرف باسم «الصاروخ غير المُوجّه». تَجدّدها رفعها إلى الطليعة.
إدلاؤها بتصريح جريء حول حرب فيتنام أشعل حاجة ملحّة إلى إسكاتها. وصفتها بـ«القذرة»، غير آبهة لتورّط أميركا بها وعدم استطاعة نيكسون تجنيب بلاده نارها. بلغها أنّ تعليقاتها تفوق الإحراج، وكعادتها جهّزت الرد: «كل ما في الأمر أنه ليس مألوفاً أن تُعبّر المرأة بصراحة عن رأيها». التماس الخطر دفع بالرئيس إلى التصرُّف.
بين عامي 1971 و1973، سجّل نيكسون سراً أشرطة صوتية لمحادثاته بين البيت الأبيض والمكاتب التنفيذية. لأكثر من 100 مرة، ورَدَ اسمها على لسانه. طفح كيله ففجّر غضبه، قائلاً إنه لم يعد يحتمل إزعاجها، و«هذا يخيفني، لا أطيق ذلك». التأزّم بدأ يلوح والنوايا الخفية راحت تخرج إلى العلن.
«نحن ندعمك يا سيدي الرئيس»، رُفعت لافتات مؤيّدة لإعادة انتخاب نيكسون رئيساً للولايات المتحدة في عام 1972. تولّى جون ميتشل إدارة حملته الانتخابية وتحمّست مارثا للمشاركة فيها. الظهور العلني مُتعتها. لكن المشاعر تغيّرت وإيمانها وزوجها بقدرات الرئيس صوَّب مساره وعدّل اتجاهه.
خمسة رجال اعتقلوا في وقت مبكر صباح السبت من شهر يونيو (حزيران) عام 1972. قُبض عليهم، وبينهم الحارس الشخصي لمارثا وسائق ابنتها إلى المدرسة. التهمة: محاولة تثبيت معدّات تنصّت في مقرّ «اللجنة الوطنية الديمقراطية». لم تعلم ماذا يحصل. كادت تُعزل عن العالم في فندق بكاليفورنيا، حتى تأكّد ميلها إلى الاعتقاد بأنّ إخراجها من واشنطن بسبب «ووترغيت» كان مُتعمّداً.
تلك شكّلت بداية احتجازها كسجينة سياسية. لم يُردها أحد أن تتكلم. آراؤها الصريحة أخافتهم. شعر الرئيس بأنّ على جون تقع مَهمّة إسكاتها أو حبسها. أن يفعل شيئاً فلا يتركها تتحدّث علناً هكذا. انحيازها للحقيقة زجّها في فوهة مدفع.
راحت دوائر «البيت الأبيض» تسرّب شائعات عن أنها ليست بكامل قواها العقلية، وكتبت الجرائد أنها مجنونة. بعد تنصيب نيكسون في عام 1973، أُعيد تصويب إصبع الاتهام، فعوض أن يطوله، امتدّ نحو جون ومارثا. كانت أول مَن قال إن على الرئيس الاستقالة. قبل مغادرة منصبه إثر الفضيحة، نالت نصيبها من التخدير ومحاولة إدخالها مرتين إلى المصحّة والتخطيط لقتلها بتهمة أنها تعرف أكثر مما ينبغي.
سبق إصابتها بالمرض ابتلاعها صدمة معرفتها أنّ زوجها والرئيس خطّطا في المكتب البيضاوي للشائعات ضدّها. باستقالة نيكسون، غمرتها سكينة لإحساس بفعل الخير لبلدها، و«بأنّ السياسيين سيصبحون وطنيين حقيقيين بلا خداع».
في الثالث من يونيو 1976، أغمضت عينيها إلى الأبد، تلك التي أوقعتها صراحتها في ورطة، لكنها أكسبها محبّين أرسل بعضهم زهوراً إلى مثواها. بإحدى باقات الأقحوان الأبيض، كُتبت رسالة: «مارثا كانت على حق». لم تُرفَق ببطاقة، لكنها اختزلت أصوات الأحرار.
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
أرسل تعليقك