في أحد أيّام شتاء عام 2014، رصدت الباحثة المصرية، د. هدى الغرباوي، فطراً غريباً يفتك بأشجار النخيل، بمزارع الفاكهة في منطقة بلطيم بمحافظة كفر الشيخ شمالي مصر. كان ظهور الفطر الغامض مبعثاً لقلق المزارعين والعلماء على السواء.الغموض الذي اكتنف الفطر، كان دافعاً للغرباوي نحو استكمال رحلتها البحثية، حتى نجحت في تصنيف الفطر الجديد وتسجيله في "بنك الفطريات العالمي"، وأصبح يحمل اسم "Crystallicutis damiettensis".
وثقت الباحثة المصرية جهودها البحثية؛ بنشر دراسة عن الفطر عام 2021 في مجلة " Fungal Biology" التابعة لدار Elsevier المرموقة، بمشاركة أستاذ الفطريات، ورئيس قسم الميكروبيولوجى بجامعة أبيريستويث في ويلز، بالمملكة المتحدة، غاريث غريفيث، والأستاذ بقسم البيولوجى بجامعة كوبنهاغن بالدنمارك، كايو ليلدوترا.ورغم نشر الدراسة في يونيو الماضي، إلا أن إعلان حديث من رئيس جامعة دمياط عن الكشف، سلط الضوء مجدداً على جهود عالمة الميكروبيولوجي المصرية، هدى الغرباوي التي تشغل وظيفة، مدرس الميكروبيولوجى بقسم النبات والميكروبيولوجى بكلية العلوم، جامعة دمياط.
تروي الباحثة المصرية هدى الغرباوي قصة اكتشاف "الفطر الفتاك"، إذ تقول "إن البداية كانت مع الإعداد للدكتوراه الخاصة بي عام 2013، وفي هذه الأثناء كنت أقوم بعمل مسح ميداني رفقة أستاذتي أميرة الفلال، رئيس قسم النبات والميكروبيولوجي حينها، للكشف عن الفطريات البازيدية التي تنمو في منطقة الدلتا (شمالي مصر)".وتضيف: "أثناء الجولات الميدانية لاحظنا نمو فطريات على الأشجار، فضلاً عن تلقي شكاوى من بعض المزارعين بنفس الخصوص، ومن هنا جاءت فكرة بحث الدكتوراه، وهي: دراسة مجموعة الفطريات التي تنمو على أشجار الفواكه والموالح".
"ولهذه الفطريات تأثير اقتصادي سلبي على المنطقة، إذ تتسبب في إصابة الأشجار بالأمراض، وانخفاض الإنتاج، حتى تؤدي في النهاية إلى موت وتحلل الأشجار".حصلت الباحثة المصرية على منحة الإشراف المشترك للحصول على الدكتوراه، وهو ما أتاح لها الفرصة للدراسة لمدة عامين في جامعة أبريستويث بالمملكة المتحدة.وخلال عمل الغرباوي على أبحاث الدكتوراه وجدت من بين عدد كبير من الفطريات المعروفة، أن ثمة فطر وحيد، لها صفات مختلفة، ظهر في موقع واحد فقط في منطقة بلطيم، بمحافظة كفر الشيخ شمالي مصر، وعندما أجري له تتابع الحمض النووي، وجد الباحثون أن الفطر مختلف عن الفطريات المسجلة في "بنك الجينات العالمي".
تقول الغرباوي: "بعد اكتشاف تفرد هذا الفطر، بدأنا مراسلة علماء الفطريات في مختلف دول العالم، ووجدنا عدم وجود أي دراسات سابقة عن نفس الفطر، وبعد الانتهاء من رسالة الدكتوراه، شرعنا في متابعة الفطر الجديد من عام 2017 حتى 2020".نتيجة هذه المتابعة، اكتشف الباحثون زيادة انتشار الفطر الفتاك في مناطق أخرى متاخمة للمنطقة التي ظهر بها أول الأمر، مثل منطقتي: "أجا" بالدقهلية، و"السنانية" بدمياط.وخلال الزيارات الميدانية لمزارع أشجار الموالح وغيرها، وجد العلماء أن الفطر انتشر في عدد كبير من المزارع وبأعداد كبيرة، وأصاب أشجار النخيل فقط من بين الأشجار الأخرى.
ومن بين السمات التي تم رصدها للفطر الفتاك؛ قدرته الكبيرة على التحلل الإنزيمي السريع للنباتات مقارنة بالفطريات الأخرى؛ حيث لاحظ الباحثون أن الجذع المصاب يتحلل خلال عام أو عامين بعد الإصابة، وهو أمر غير مسبوق في الفطريات.كما أنّ الفطر لديه قابلية كبيرة على مواجهة الظروف المناخية المختلفة، كونه يظهر في جميع مواسم العام، ويتحمل درجات الحرارة المختلفة، ويتحمل درجات الحرارة العالية حتى 38، والمنخفضة حتى 15 على مقياس سيليزيوس، وهو الأمر الذي يختلف فيه عن بقية الفطريات البازيدية التي تظهر في الخريف والشتاء فقط.
دراسة الفطر
بعد رصد تفشي الفطر الفتاك خلال 6 سنوات في منطقة الدلتا، كلّفت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الباحثة هدى الغرباوي بالسفر في مهمة علمية إلى المملكة المتحدة لدراسة الفطر في الفترة بين مارس 2020 حتى فبراير 2021.تقول الغرباوي أثناء المهمة العلمية بالمملكة المتحدة، قمنا بإجراء الأبحاث الفسيولوجية والتشريحية والجينية لإثبات السلالة الجديدة للفطر المكتشف مقارنة بالسلالات المثبتة عالمياً، وذلك بمساعدة رئيس قسم الميكروبيولوجى بجامعة أبيريستويث، غاريث غريفيث".
بعد التأكد من أن هذا الفطر جديد تماماً، قمنا بمنحه اسم جديد، وهو: (Crystallicutis damiettensis)، وكلمة crystalli نسبة لوجود مجموعة كبيرة من الكريستالات التي تميز الفطر، وcutis نسبة لوجود طبقة تشبه الجلد، أمَّا damiettensis نسبة إلى جامعة دمياط.وأثناء مقارنة الفطر بعدد كبير من الفطريات، اكتشف الباحثون فطرين قريبين من عائلة الفطر الجديد، لكن تعريفهما كان خاطئاً لأنه اعتمد على الصفات الظاهرية فقط، فقاموا بإعادة تعريفهما من جديد ومنحهما اسم جديد، هو Crystallicutis.مع بداية عام 2021، قامت الغرباوي رفقة زملائها من الباحثين الدوليين، بنشر الدراسة التي توثق جهودهم، ثم تسجيل الأسماء الجديدة في "بنك الجينات العالمي Genbank" وكذلك "بنك الفطريات العالمي - Index Fungorum".
تطبيقات صناعية
بعد التوثيق العلمي، انتقل الباحثون إلى مرحلة استخدام الفطر الجديد في تطبيقات صناعية، وتصميم علاجات للنباتات المصابة بالفطر.توضح الباحثة المصرية أن قدرة الفطر الهائلة على إحداث عملية التحلل، يمكن أن تساعد على تحلل المواد الضارة للبيئة، ويمكن أن تستخدم هذه السمة في: التخلص من النفايات المختلفة، وتنقية مياه الصرف الصحي، وصناعة المنظفات، فضلاً عن إمكانية استخدامه في بدائل الخشب والبلاستيك، والمواد الصديقة للبيئة.
تقول الغرباوي إنها تعمل حالياً على عدد من الدراسات الخاصة بالفطريات البازيدية، والتي تبحث إمكانية استخدامها في مواد البناء، إذ يمكن أن تسهم في صناعة "الطوب" من بقايا الأخشاب، نظراً لقدرتها الكبيرة على إعطاء الصلابة وقوة العزل.وعن الفائدة التي تعود من وراء دراسة الفطر على النباتات التي تتضرر منه، تقول "إنّ فهم الفطر يساعد في الحدّ من مخاطره على النباتات، لأننا نعرف الآن عوامل انتشاره التي يمكن تجنبها، ومنها: الرطوبة العالية، والظل، ووجود النفايات، وكذا الحشرات التي تساعد في انتشاره السريع.
ومن أجل تصميم علاجات مقاومة للفطر الفتاك، يعمل الباحثون حالياً على اختبار مواد كيميائية في المعمل، يكون لها القدرة على القضاء على الفطر، وفي نفس الوقت تكون آمنة في استخدامها على النباتات.وفي ختام حديثها تشيد الغرباوي بدور جامعة دمياط، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي في دعم المشروع البحثي خلال سنوات الدراسة، من خلال تقديم منحة الإشراف المشترك للدكتوراه، وكذا منحة المهمة العلمية لأبحاث ما بعد الدكتوراه؛ لاستكمال دراسة الفطر.
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك