لفترة لم تتجاوز سبعة أيام، فرض حزب صغير لا يحظى إلا بـ10 مقاعد في برلمان ويستمنستر «فيتو» على حزب المحافظين الحاكم، كاد يُفشل اتفاقاً مبدئياً ينقذ بريطانيا من تداعيات اقتصادية وخيمة؛ إذ رفض الحزب الوحدوي الديمقراطي، بقيادة آرلين فوستر، الاثنين الماضي، اتفاقاً مبدئياً بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حول «البريكست» (خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد) يتيح للطرفين الانتقال إلى المرحلة الثانية من المفاوضات المتعلقة ببحث اتفاق تجاري حر.
وسعت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي خلال الساعات الماضية جاهدة لإقناع فوستر، شريكتها في الحكم وثاني أقوى امرأة في الساحة السياسية البريطانية، بصيغة معدّلة للاتفاق مع بروكسل.
اكتسبت آرلين فوستر وعياً سياسياً منذ طفولتها، وذلك بعدما استهدفت ميليشيا «الجيش الجمهوري الآيرلندي» (آي آر إيه) والدها جون كيلي - وهو شرطي - في بيته، وكانت يومذاك ابنة 8 سنوات. وروت فوستر أن «الإرهابيين» حاولوا اغتيال والدها في عام 1979، واستهدفوه بعدة رصاصات، لكنه تمكّن من النجاة وعاش لـ32 سنة أخرى.
ثم عاشت فوستر تجربة عنيفة أخرى، عندما انفجرت قنبلة وضعها «الجيش الجمهوري الآيرلندي» تحت حافلة مدرسية كانت وأصدقاء لها على متنها في عام 1988. وأسهمت أحداث كهذه في تكوين شخصية فوستر وهويتها السياسية، ورسّخت إيمانها بأهمية المشاركة الفعالة في تحديد مستقبل إقليم آيرلندا الشمالية.
ولاحقاً، ظهر اهتمام فوستر بالحياة الحزبية بعدما التحقت بجامعة كوينز في بلفاست، عاصمة الإقليم، حين انضمّت إلى جمعية الوحدويين الشباب. وبعد تخرّجها في كلية الحقوق، عملت فوستر محامية وكثّفت نشاطها السياسي في حزب ألستر الوحدوي، القائد التاريخي للتيار الوحدوي (مع بريطانيا) في أوساط الغالبية البروتستانتية، حتى أصبحت من قياداته البارزة.
إلا أنها قررت الاستقالة منه في عام 2004، لمعارضتها إجراء تعديلات على اتفاق السلام المعروف بـ«اتفاق الجمعة العظيمة»، التي رأت فوستر - وفق ما نقلت عنها صحيفة «ميرور» البريطانية - أنها أعطت امتيازات للميليشيا الكاثوليكية الجمهورية حول قضية إطلاق سراح السجناء على حساب عائلات ضحاياها. ومن ثم، التحقت فوستر في العام نفسه بالحزب الوحدوي الديمقراطي (دي يو بي) الأكثر تشدداً، ولم تلبث أن أصبحت حليفة مقرّبة من الوزير الأول لآيرلندا الشمالية آنذاك بيتر روبنسون، زعيم الوحدويين الديمقراطيين.
بعد ذلك تسلّمت هذه السياسية الشابة عدة حقائب وزارية في حكومة إقليم آيرلندا الشمالية، إذ تولّت وزارة البيئة بين 2007 و2008، ثم وزارة التجارة والاستثمار بين 2008 و2015، فوزارة المالية بين 2015 و2016. أما أهم وآخر منصب أسند إلى فوستر هو حقيبة «الوزيرة الأولى» (أي رئيسة وزراء الإقليم) في عام 2016، لتغدو أول امرأة تشغل هذا المنصب الحسّاس.
لغط وشكوك
ولم تكن مسيرة فوستر السياسية خالية من اللغط والشكوك، إذ سُلّط الضوء خلال الفترة الماضية على دورها في برنامج فاشل للطاقة كلّف دافعي الضرائب ما يقرب من 490 مليون جنيه إسترليني (600 مليون دولار). وأطاحت هذه الفضيحة بالقيادي البارز في حزب «شين فين» الجمهوري الكاثوليكي، مارتن ماكغينيس، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس حكومة الإقليم في يناير (كانون الثاني) الماضي. وقال ماكغينيس في خطاب استقالته إن حزبه لن يرشح خلفاً في «حكومة تقاسم السلطة» التي ترأسها رئيسة الوزراء فوستر. وفي حينه اتهم معارضو فوستر الوزيرة الأولى بالإشراف على مشروع يسعى لتشجيع الشركات المنتجة لأنظمة التدفئة على استخدام الطاقات البديلة، مقابل امتيازات مالية قد تكلّف دافعي الضرائب 490 مليون جنيه إسترليني على مدى 20 سنة.
وصول مفاجئ إلى السلطة
أصبحت آرلين فوستر، بفضل قيادتها الحزب الوحدوي الديمقراطي، ثاني أهم امرأة في السياسة البريطانية بعد تيريزا ماي خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي، عندما اضطر حزب المحافظين نتيجة عجزه عن ضمان غالبية مطلقة في الانتخابات العامة المبكرة في بريطانيا، إلى السعي لدعم الوحدويين الديمقراطيين لضمان الحصول على غالبيات تصويت في برلمان ويستمنستر البريطاني.
ويُذكر أن ماي قد خسرت غالبيتها في البرلمان، بعدما دعت إلى انتخابات مبكرة، ما دفعها إلى التحالف مع الوحدويين الديمقراطيين في آيرلندا الشمالية، رغم اختلاف مواقفهم مع مواقف حزب المحافظين من قضايا جوهرية مثل الإجهاض. فلقد مُنِيَت ماي بخسارة فادحة في الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعت إليها في 8 يونيو أملاً بتعزيز موقفها قبل بدء مفاوضات «البريكست»، ولم يعد حزبها المحافظ يملك سوى 317 مقعداً من أصل 650.
وبناءً عليه، ترتب على حزب ماي، بعدما أضعفته الانتخابات وبات عرضة لرفض مشروعه أو للتصويت بسحب الثقة، السعي لنيل دعم الحزب الوحدوي الديمقراطي لتشكيل حكومة، ذلك أنه مع أن الأخير لا يملك أكثر من عشرة مقاعد، فهي كافية لإحراز 326 مقعداً مطلوبة للأكثرية المطلقة في مجلس العموم.
فوستر، عند مغادرتها مقر رئاسة الوزراء البريطانية في «10 داونينغ ستريت» بلندن عقب توقيع اتفاق التعاون الحكومي مع ماي، قالت: «اليوم أبرمنا اتفاقاً مع حزب المحافظين لدعم الحكومة في البرلمان». كما أعلنت أن الاتفاق ينصّ على حصول آيرلندا الشمالية على مليار جنيه إسترليني إضافي (1.1 مليار يورو) خلال السنتين المقبلتين.
وتابعت فوستر أن هذا المبلغ «سيعزز الاقتصاد والاستثمار في البنى التحتية الجديدة، وفي قطاعي التعليم والصحة»، معتبرة أن صيغة الائتلاف الحكومي الجديد «نتيجة مفيدة للمملكة المتحدة ولآيرلندا الشمالية معاً، ستجيز لأمتينا التقدم لمواجهة التحديات المقبلة». وبدورها، رحبت ماي في بيان «بهذا الاتفاق الذي سيتيح لنا العمل المشترك لصالح مجمل المملكة المتحدة، وسيمنحنا اليقين الذي نحتاج إليه مع بدء خروجنا من الاتحاد الأوروبي». وتجدر الإشارة، إلى أن الاتفاق بين الجانبين ينص تحديداً على أن يؤمّن الحزب الوحدوي الديمقراطي الدعم الاقتراعي للحكومة في مشاريع القانون المتصلة بـ«البريكست» والميزانية، وتلك التي تطال الاقتصاد والأمن القومي وجميع مذكرات الثقة، بينما تعالج المسائل الأخرى بـ«اتفاق منفصل لكل حالة».
بالمناسبة، لم يلقَ هذا «التعاون» الاستثنائي ردوداً إيجابية بين الأحزاب المعارضة. وسرعان ما أكد حزب الديمقراطيين الأحرار المعارض أن «الشعب لن يخدعه الاتفاق الصغير الرديء»، بينما ندّد رئيس وزراء إقليم ويلز، كاروين جونز، بما اعتبره اتفاقا «شائناً» و«غير مقبول»... «يقضي على التمويل المنصف لمقاطعات ومناطق» المملكة المتحدة.
وشاطره هذا الانتقاد الحزب الوطني الاسكوتلندي المطالِب بالاستقلال، الذي اعتبر أن «النواحي المالية في هذا الاتفاق تختصر لامبالاة المحافظين باسكوتلندا». وأضاف الحزب أن نوابه «سيطالبون بحصول اسكوتلندا على حصة عادلة من أي تمويل يُسدّد إلى آيرلندا الشمالية».
تناقضات لافتة
وحقاً، أثار تعاون حزب المحافظين الذي يوافق على زواج المثليين والإجهاض مع الحزب المتشدد الصغير، الذي يرفضهما بشدة القلق في عموم المملكة المتحدة وآيرلندا. بل سبق أن عبّر نواب حاليون أو سابقون من الحزب الوحدوي الديمقراطي عن تأييدهم عقوبة الإعدام، وشككوا في صحة نظرية تغيّر المناخ والاحتباس الحراري.
ومن ناحية ثانية، حذّرت ميشيل أونيل، زعيمة كتلة حزب «شين فين» في برلمان آيرلندا الشمالية، من أي تحالف ينسف «اتفاق الجمعة العظيمة» الذي أنهى عام 1998 نحو ثلاثين سنة من العنف في هذه المنطقة، الأمر الذي تشاطره حكومة جمهورية آيرلندا. والواقع، أن التعاون بين الحزب الوحدوي الديمقراطي وماي مسألة حياد الحكومة البريطانية في آيرلندا الشمالية. لكن نص الاتفاق سعى إلى الطمأنة، مؤكداً «امتناع الحزب الوحدوي الديمقراطي بأي شكل كان عن لعب أي دور يؤثر على ما تفعله الحكومة البريطانية في المحادثات السياسية في آيرلندا الشمالية». ومعلوم أن حياد لندن يعتبر أمراً أساسياً في الحفاظ على توازن القوى الحساس بين البروتستانت والكاثوليك في آيرلندا الشمالية التي عصفت بها أعمال عنف في السابق بسبب سيطرة بريطانيا على الإقليم.
«البريكست» و«الفيتو» الآيرلندي
من جانب آخر، عند دعم تيريزا ماي التعاون مع الوحدويين الديمقراطيين فإنها لم تتوقّع أن تعرقل حليفتها في الحكم جهود حكومتها لإبرام اتفاق مرحلي حول «البريكست»، يتيح لبريطانيا الانتقال إلى المرحلة الثانية من المفاوضات، وطمأنة المصارف الدولية التي هددت بنقل عملياتها من لندن.
ولكن ماي اضطرت للعودة من العاصمة البلجيكية والأوروبية بروكسل يوم الاثنين الماضي خاوية الوفاض، بعدما اعترضت فوستر في بيان أصدرته من بلفاست على الاتفاق المبدئي حول وضع آيرلندا الشمالية. وكانت تقارير إعلامية قد أفادت بأن لندن وافقت على أن تحافظ آيرلندا الشمالية (التي تحكمها بريطانيا) على نوع من «التنسيق التنظيمي» مع جمهورية آيرلندا (العضو في الاتحاد الأوروبي) بعد «البريكست»، حتى مع انسحاب بريطانيا ككل من سوق التكتل الموحدة واتحاده الجمركي.
وكانت حكومة جمهورية آيرلندا في دبلن قد طلبت ضمانات بألا يؤدي «البريكست» إلى عودة التفتيش على الحدود بين الجمهورية والإقليم الذي قد يثير توترات طائفية في منطقة غرقت في العنف بالماضي.
لكن بينما سعت ماي للتوصل إلى اتفاق أثناء غداء عمل مع رئيس المفوضية الأوروبية جان - كلود يونكر في بروكسل، الاثنين، لم يخفِ الحزب الوحدوي الديمقراطي معارضته. وقالت فوستر رداً على ذلك: «لقد كنا واضحين جداً: إنه يجب على آيرلندا الشمالية الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بنفس شروط انفصال بقية المملكة المتحدة».
وأضافت الزعيمة الآيرلندية الشمالية: «لن نقبل بأي شكل من أشكال الاختلاف التنظيمي الذي يفصل آيرلندا الشمالية اقتصادياً أو سياسياً عن بقية المملكة المتحدة»، وتابعت: «التكامل الاقتصادي والدستوري للمملكة المتحدة لا يمكن المساومة عليه بأي شكل من الأشكال».
وبدوره، قال النائب نايجل دودز - من حزب فوستر - إنه لم يرَ مسودة الاتفاق قبل صباح الاثنين، واعتبر هذا التحرك «غير مقبول»، كما أوردت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. وأضاف: «لن نسمح بالاتفاق على أي تسوية يمكن أن تتسبب بتباعد سياسي أو اقتصادي بين آيرلندا الشمالية وباقي المملكة المتحدة».
أيضاً، أعرب عدد من النواب المحافظين عن مخاوفهم، حين حذر المؤيد البارز لـ«البريكست»، جاكوب ريس - موغ من أن «الحكومة لا تمتلك غالبية» لنقل الحدود الجمركية التابعة للاتحاد الأوروبي إلى البحر الآيرلندي. ومن جهتها، قالت روث ديفيدسون، زعيمة حزب المحافظين في اسكوتلندا، إنه من الأفضل أن يكون هناك تنسيق تنظيمي بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بأكملها. وهذا بينما رفض وزير شؤون «البريكست» ديفيد ديفيس في تصريحات أدلى بها في مجلس العموم التكهنات، مؤكداً على التزامه بـ«سلامة الأراضي» البريطانية. ولم يعطِ تفاصيل إضافية، إلا أنه أكد: «اقتربنا الآن»، من التوصل إلى اتفاق يتزامن مع قمة سيقرر خلالها قادة الاتحاد الأوروبي إن كانوا سينتقلون في مفاوضاتهم إلى مسألة التجارة.
انفراج
وأمس، بدا أن ماي نجحت في إقناع فوستر وتحقيق تقدّم في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، إذ أعلنت المفوضية الأوروبية أن لندن حققت «تقدماً كافياً» في مسائل تشكل جوهر انسحابها من التكتل بينها الحدود مع آيرلندا وكلفة «البريكست» وحقوق المواطنين. وأكدت ماي أن الجزء الأهم من الاتفاق هو ضمان ألا تعود نقاط التفتيش إلى الحدود بين آيرلندا الشمالية الخاضعة للحكم البريطاني وجمهورية آيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي، بعد خروج بريطانيا المتوقَّع رسمياً بتاريخ 29 مارس (آذار)، 2019. وقالت خلال مؤتمر صحافي مشترك مع يونكر: «سنضمن ألا تكون هناك حدود فعلية في آيرلندا الشمالية».
وأبدت فوستر تأييداً حذراً لاتفاق ماي، وقالت إن جوانب الاتفاق قد تتطلب المزيد من الدراسة. ومع إعرابها لشبكة «سكاي نيوز» عن «سعادتها» حيال التغييرات التي أدخلت على الاتفاق بناء على طلب حزبها، إلا أنها أكدت أن هناك «المزيد من العمل الذي يتعين القيام به لتحسين الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي».
أرسل تعليقك