تونس - العرب اليوم
يقولون إن الحاجة محك النباهة، ويقولون أيضا إنه لا شيء يطلق العظمة الكامنة في داخلنا مثل الرغبة في مساعدة الآخرين وخدمتهم، يعد العربي لذيب، 71 عاما، من أولئك الذين كرسوا أنفسهم لمساعدة الآخرين، حتى تم تلقيبه بـ"طبيب الفقراء".على بعد 90 كيلومترا من العاصمة وبعيدا عن صخب المدن، فتح العربي لذيب، عيادته الخاصة منذ أربعة عقود في ربوع بلدة الماتلين الواقعة في معتمدية رأس الجبل من محافظة بنزرت في الشمال الشرقي من تونس.
هناك يستقبل لذيب، مرضاه بحفاوة استقبال الناس لضيوفهم وبكرم لا ينضب. يجلسهم على كرسي محاذ لمكتبه ويسألهم عن حالتهم النفسية قبل الجسدية و يقول لهم إن علاج الروح يسبق علاج الجسد.
يطلق أهل الماتلين، على العربي لذيب اسم "طبيب الفقراء" أو "طبيب الزواولة" بلهجتهم العامية، فطبيبهم الذي يعرفونه منذ عشرات السنين لا يعترف بالتسعيرة الحكومية ولا يخشى عقوبة مخالفة مدونة قواعد السلوك التي تفرض على الأطباء اعتماد تسعيرة معينة تحددها وزارة الصحة.يقول لذيب في حديثه لـ "سبوتنيك" إنه يعرف جيدا حال أهالي بلدته العاملين في الفلاحة ووضعهم المادي، لذلك يعتمد تسعيرة رمزية لمتوسطي الحال تصل إلى نصف التسعيرة المعتمدة في تونس وأحيانا إلى ربعها، بينما لا يتلقى مليما واحدا من ضعاف الحال.ويستحضر لذيب، كيف أن أحد المرضى قام بإعطائه سلة من الخضر وخبزا تقليديا لقاء علاجه، قائلا "لا أذكر أني أجبرت يوما مريضا على دفع ثمن العلاج أو سببت له إحراجا بسبب ضعف حاله".
ولا يكتفي لذيب بعلاج البسطاء مجانا، إذ يحرص أيضا على تمكينهم من الأدوية التي يحتاجونها للتعافي، ويساعده في ذلك مندوبو مبيعات الأدوية الذين يوفرون له الأدوية متى وما استطاعوا وأحيانا يدفع لذيب ثمن الأدوية من ماله الخاص.ويختار "طبيب الفقراء " الأدوية الأقل ثمنا حتى لا يثقل كاهل مرضاه، لأن المهم لديه هو فائدة الدواء وتحقيق الغاية المطلوبة منه وهي التماثل إلى الشفاء.
40 عاما في خدمة المحتاجين
مزاولة العربي لذيب، للطب لم تكن مجرد صدفة أو رغبة منفصلة الخلفيات، وإنما نتيجة تجربة قاسية مر بها منذ صغره، ويقول: "كنت أعاني من مرض في العظام تسبب لي في اعوجاج في العمود الفقري، واضطررت إلى البقاء في مستشفيات فرنسا لمدة عامين".
وتابع: "خضعت وأنا صاحب الخامسة عشر عاما إلى عملية جراحية، وحينها قررت أن أصبح طبيبا إن كللت العملية بالنجاح وأساعد المرضى من ضعاف الحال على تجاوز مرضهم ومشاكلهم الجسدية".
وفعلا درس لذيب، الطب وحصل على شهادة مزاولة المهنة وافتتح عيادته الخاصة سنة 1981 أي قبل نحو أربعين عاماويضيف: "كان بالإمكان أن أفتتح عيادتي في العاصمة أو في مدينة بنزرت أو أي من المدن الكبرى التي يمكنني جني المال الكثير منها، لكنني اخترت مسقط رأسي الماتلين، التي كانت تفتقر لوجود طبيب واحد أو ممرض أو مستشفى أو حتى صيدلية".ومنذ افتتاح عيادته إلى اليوم، يمضي لذيب يومه متنقلا بين مقر عمله وبيوت المرضى، قائلا: "تعود الأهالي علي وهذه عادتي منذ 40 سنة ولن أغيرها ما حييت".
غايته إسعاد الناس
ولا يكرس لذيب مهنته فقط للمرضى والمحتاجين، إذ وهب حياته ووقته وحتى لحظاته العائلية من أجل مساعدة المرضى، قائلا "إن أهم صفة يجب أن تتوفر في الطبيب هي التفرغ وأن يكون متاحا للناس متى احتاجوا إليه".فعلى عكس ما هو سائد، لا يكتفي لذيب باستقبال المرضى في عيادته وإنما يتنقل بنفسه إليهم أينما ووقتما كانوا خاصة في الحالات العاجلة والخاصة كالنساء الحوامل وكبار السن وحاملي الأمراض المزمنة، غير عابئ بتعبه وغير مبال بتأخر الوقت أو بتفويت مواعيده الخاصة وأفراحه".
وفي خضم جائحة كورونا والضغط الكبير الذي تعيشه المستشفيات العمومية خاصة في الجهات الداخلية، يحرص "طبيب الفقراء" على مساعدة الناس على تجاوز مرضهم والإحاطة بعائلات المصابين بفيروس كورونا وتوعيتهم بمراحل العلاج دون الوقوع في مصيدة المشاكل النفسية الناجمة عن المعلومات الخاطئة التي يتم تداولها.وأوضح أنه يركز اهتمامه على كبار السن وحاملي الأمراض المزمنة كالسكري والقلب والمصابين بضيق التنفس والسمنة الذين يكونون أكثر عرضة للمشاكل المصاحبة لفيروس كورونا.وعلى الرغم من أن لذيب، أمضى أكثر من 40 عاما في هذه المهنة، إلا أن غايته لم تكن يوما الربح المادي وإنما إسعاد الناس وتخليد اسمه في قلوبهم خاصة وهو الذي عاصر مختلف الأجيال، قائلا: "بعد مائة عام لا أظن أن منطقة الماتلين مسقط رأسي ستنسى اسم العربي لذيب".وينصح الطبيب أهل المهنة بوضع القسم الذي أدوه نصب أعينهم والتقيد بمضمونه في أن يصونوا حياة الناس في كل الظروف والأحوال وأن يكونوا دائما وسائل رحمة.
أرسل تعليقك