كتب سعيد الشحات : طلبت الموسيقار الكبير كمال الطويل تليفونيا عام 1994، أعرض عليه فكرة صحافية أريد أن يكون ممن يتحدثون فيها، فاعتذر قبل أن يسمعها قائلا:" معلهش أنا مزاجي مش رايق، اتصل بعد يومين" ، واتصلت به بعد يومين واستمع لي، قلت له :"أنا بأعمل فكرة وهي، كيف وأنتم شباب صغير السن أحدثتم هذا الإبداع في الخمسينيات والستينيات في كل المجالات، يعني شوف انت كان عندك كم سنة، وعبد الحليم حافظ كان عنده كم سنة، والموجي، وصلاح جاهين، وبليغ حمدي ،ومحمد رشدي، وفي الصحافة كان أحمد بهاء الدين رئيس تحرير صباح الخير وعمره 29 سنة، وفي السياسة كان الدكتورعزيز صدقي وزير صناعة وعمره 31 سنة"..فرد:" وجمال عبد الناصر قام بثورة وعمره 34 سنة".
استمع باهتمام ثم طلب أن أعاود الاتصال به في اليوم التالي، واتصلت للمرة الثالثة، فرد متبرما :"انت مش عارف إن الزمالك بيلعب، شكلك كده أهلاوي" اعتذرت:" آسف أنا معرفش إنك بتتفرج علي المباراة في التليفزيون"، ودفعني تبرمه إلي مشاهدتي للمباراة وكانت بين الزمالك والمحلة، واهتديت إلي أنه أعطاني مفتاحا لفك شفرة مزاجه وهي "فوز الزمالك" وهذا ماحدث بالفعل، فبعد فوز الزمالك 2 صفر، طلبته:"ألف مبروك للزمالك "..رد بمزاج نفسي رائق وضحكة مجلجلة :"هأ،هأ،هأ، الزمالك كان عالي قوي..هأ،هأ،هأ..ممكن تيجي بكره الساعة ستة".
وفي الساعة السادسة في شتاء عام 1995، كنت عنده أنا وزميلتي الراحلة الكاتبة الصحفية بجريدة العربي ماجدة خضر التي شاركتني الفكرة.. كانت شقته فسيحة بحي الزمالك ومجاورة لشقة محمود رياض وزير خارجية مصرفي الخمسينيات والستينيات، وأمين عام جامعة الدول العربية المستقيل في مارس 1979 بسبب اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.
كان كل شيء في منزله يعبر عن ذوق فني رفيع، فحجرة الصالون تزدان بتماثيل برونزية متنوعة وآلة بيانو أنيقة، وبينما تتوزع نظراتنا عليها دخل علينا..كان طويلا، بشوشا، أنيقا ،ضحوكا:"أهلا، أهلا، أنا أحب الصحفيين اللي بيفكروا"..ثم وجه كلامه لي:"وبعدين انت عرفت تجيبني، كلمتني بعد فوز الزمالك، أصل الزمالك لما يغلب ببقي حاجة تانية"..داعبته:" أكيد الحكاية دي كانت بتبقي صعبة مع عبد الحليم حافظ الأهلاوي"..ضحك:"هأ، هأ،ها،طبعا مكنتش برحمه ولاهو بيرحمني في الموضوع ده..هه.. نتكلم.. نبدأ من أي حتة تحبوها؟..قلت له :"من البداية"..رد :"قصدك، من وقت الحضانة..هأ..هأ..هأ"..وبدأ يحكي قصته منذ مولده عام 1922 كابن للطبقة الأرستقراطية قبل ثورة 23 يوليو 1952 ، فوالده زكي الطويل كان وكيلا لوزارة الأشغال، وسافر إلي بريطانيا لدراسة الدكتوراة في الهندسة، وعمه عبد الفتاح باشا الطويل الوزير في حكومة الوفد قبل الثورة.
كان حكاء مدهشا، معلوماته حاضرة، ويسردها بتسلسلها، وبصوت جهوري، ويمزج بين السياسة والفن علي طول الخط، لأنهما لا ينفصلان وفقا لرأيه..قال:"كنت في مدرسة الأورمان الابتدائية تلميذا صغير السن، ويأتي إلينا طلبة كلية الفنون التطبيقية لنخرج معهم في المظاهرات، ونذهب إلي المدرسة السعيدية والحشد يكبر، ونهتف ضد الإنجليز والفساد.. في يوم مذبحة كوبري عباس 1935 كان الجنود علي الكوبري يصطادون المتظاهرين، والطلبة المجروحين علي الطريق، لم أجد ما أقدمه لهم غير استضافتهم في منزلي، فعلت ذلك وأنا طفل في الابتدائية ..المشاعر كانت مهيأة لشئ جديد يحصل في البلد.. والتحقت بعد مدرسة الأورمان بمعهد الموسيقي بالأسكندرية، ثم المعد العالي للموسيقي المسرحية في القاهرة، وتخرجت منه عام 1949، وكان زملائي في الدفعة عبد الحليم حافظ، وأحمد فؤاد حسن، وعلي إسماعيل، وسيد إسماعيل، وفايدة كامل، وآخرين".
تحدث عن التحاقه ملحنا في الإذاعة عام 1950، ومن خلاله استطاع إلحاق عبد الحليم بالإذاعة عام 1951.."كان عبدالحليم مدرس موسيقي في طنطا، كان هلكان، ومشتت من السفر كل يوم..كان فيه ثلاث فرق موسيقية في الإذاعة، قلت لحافظ عبد الوهاب ممكن نأخذه يعزف علي آلة الأبوا..كانت لجنة اختباره مكونة مني ومن حافظ والأميرالاي عبد الحميد عبد الرحمن مدير موسيقات الجيش اللي، واشترط علينا لنجاح عبد الحليم أن ينجح واحد متوصي عليه من مجلس الوزراء..حافظ وافق وقالي:"نكسب موهبة عبد الحليم، وننجح التاني، ولن يصل لشئ لأنه غير موهوب".
أضاف:" بعد قيام ثورة يوليو 1952، بدأت المسيرة، كانت كل حاجة حولنا تبشر بالجديد ،الحلم في السياسة يولد الحلم في الفن والغناء، وكانت الثورة بأحداثها وجمال عبد الناصر حلم كبير، كان حتة مننا، وكانت الفرصة مفتوحة أمامنا كجيل جديد بيتنطط، ويجرب، ويثور، عملنا انقلاب في الموسيقي العربية، أخرجناها من التطريب إلي التعبير، طريق عم الكل سيد درويش، كان عبد الحليم صوتنا وجسرنا للناس، ووصل تألق جيلنا درجة جعلت عبد الوهاب يتأخر قليلا في الانضمام إليها.. عبدالوهاب ظل يترقب كعادته، فهو رجل التجربة الثانية في كل شيء، هو الزوج الثاني لزوجته، والملحن الثاني لمطربه".
استمر اللقاء ساعتين كشف فيه أسرار الأغنيات الوطنية مع عبد الحليم حافظ، وكان هو فارسها في الخمسينيات والستينيات، ونشرنا الحوار في جريدة "الراية" القطرية، ثم نشرنا جزءا منه في جريدتنا "العربي"،وفي عام 1996 كنت أجهز لمشروع كتابي"أم كلثوم وحكام مصر"، فطلبت منه شهادته، وكان يشغلني سؤال..لماذا وهو الموهبة المتفجرة في تاريخ الموسيقي العربية اقتصر تعاونه مع أم كلثوم علي أغنيتين في "رابعة العدوية" ونشيد"والله زمان ياسلاحي"، الذي كان أيقونة الغناء الوطني أثناء العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956 ، وأصبحت نشيدا وطنيا لمصر حتي ألغاه السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 واعتمد نشيد"بلادي، بلادي".
رحب، وفي هذا اللقاء صال وجال..ذكر رأيه في السنباطي وعبد الوهاب وزكريا أحمد والقصبجي وسيد درويش، وكشف عن أسرار"والله زمان ياسلاحي"، قائلا، أنه جاء بعد اتصال منه بصلاح جاهين.."قلت لصلاح اللي أنا اعتبره جبرتي ثورة يوليو، أنا في دماغي مزيكا، اسمعها".
استدعي كمال هذه اللحظة فدق علي ترابيزة أمامنا بأنغام النشيد، وفاجأني بأنه لا يعرف العزف علي العود..قال :"أعمل اللحن علي أي حاجة، أدق علي الباب، علي مكتب، علي ترابيزة، زي ما عملت دلوقتي"..واصل تدفقه :صلاح كتب علي المزيكا، ثم اتصل..قال لي: اسمع..واتصلت بأم كلثوم، قرأت عليها الكلام، قالت لي:هات صلاح وتعالي حالا..كان عندها أحمد الحفناوي عازف الكمان، وعبده صالح عازف القانون وقائد فرقتها الموسيقية، وإبراهيم عبدة عازف الإيقاع.. جلسنا علي ضوء الشموع لأنه كان ممنوع إضاءة الأنوار خوفا من الغارات، وفجأة خرجت أم كلثوم إلي البلكونة علي صوت طائرة.. جريت وراها، قلت لها:"تعالي، ادخلي بدل ماشظية تصيبك"، ردت:"شظية إيه ياكمال..أنا نفسي أمسك طيارة أفعصها بإيدي".
سألته: "لماذا لم يتكرراللقاء؟..جلجلت ضحكته :« أنت بتفكرنى بحاجات قديمة، دي حكاية عاصرها الكاتب الصحفى مصطفى أمين، كنا كل أسبوع نلتقى فى بيته ويحضر كامل الشناوى وأحمد رجب، وأحمد بهاء الدين، وفتحي غانم، وأنيس منصور أحيانا، وأم كلثوم، وأحيانًا زوجها الدكتور حسن الحفناوى، والموسيقار محمد عبدالوهاب، ومجدى العمروسى «اللى بيألف كتب الأيام دى»..«كان توصيفه للعمروسى يعبر عن غضب نحوه، وكان له كتاب بعنوان «أعز الناس» وآخر بعنوان «كراسات الحب والوطنية» يوثق أغانى عبدالحليم وتاريخها.
أضاف:«كان بهاء يتحدث فى السياسة والفكر والثقافة، وفتحى غانم فى الأدب والثقافة..كانت أم كلثوم تحب هذا المناخ، وأنا أحبه أيضًا..وفى مرة أعطتنى ثلاثة نصوص من بينها أغنية «لسه فاكر" للشاعر عبدالفتاح مصطفى، وأغنية دينية تأليف بيرم التونسى..وأنا عندى طبيعة لما ألحن يهمنى أن أكون والمطرب أصدقاء قبل أى شيء، والحمد لله كانت الكيمياء بيني وبين أم كلثوم موجودة ..أخذت الكلمات وسافرت مع زوجتى إلى أوروبا، وغلطتى أننى لم أخبرها.
بعد عودتى من السفر جاء لى مجدى العمروسى وقال لى: عايز أقول لك حاجة مهمة حصلت وأنت مسافر..قلت له: إيه يامجدى اللى حصل ؟..أجاب: كنت عند مصطفى أمين من 15 يوما، وكان عنده أم كلثوم وزوجها حسن الحفناوى.. سمعت أم كلثوم بتقول: أنا نفسى أعرف كمال الطويل بيسافر هو وزوجته إزاى فى الوقت اللى الناس عندها ظروف ملخبطة..رد مجدى عليها حسب كلامه لي:كمال سافر ياست زى لما بتسافرى أنت وزوجك.
اندهشت من أم كلثوم..سألت نفسى :إزاى بتقول كده، وأنا كل أسبوع بشوفها..غضبت منها جدا وأعطيت تعليمات عندى فى البيت: لواتصلت أم كلثوم فى أى وقت أنا مش موجود ، وفعلا اتصلت أكثر من مرة، واشتكت لمصطفى أمين.. حاول يعرف منى السر، وسبب عدم تلحينى للأغنيتين، ولم يصل لشئ..زهقت أم كلثوم..وأعطت اللحنين لرياض السنباطى، ودخل مصطفى أمين السجن«21 يوليو1965»،وأفرج عنه السادات «17 يناير 1974»،وفى زيارة له فكرنى بالحكاية..سألنى: «عايز أعرف إيه سبب زعلك من أم كلثوم السنين دى كلها؟».. حكيت له.. فوجئت بصوته الحاد والغاضب: «ضحكوا عليك..إزاى ماقدرتش تفهم إن ده ملعوب بيتعمل عشان يبعدوك عنها.. السهرة كانت عندى فى البيت والموضوع محصلش..أنت مفهمتش ليه مجدى العمروسى عمل اللى عمله، وهو يعرف إنك مندفع وعصبى فى الأمور اللى تمس كرامتك؟.. إيه مصلحته ؟.أجاب هو: «ده مقلب دبره عبد الحليم ومجدى لأن تفكيرهم إن لو نجحت مع أم كلثوم، هتنصرف عن عبدالحليم».
علق الطويل:« للأسف أم كلثوم كانت ماتت"، وسألني:"عرفت الحكاية؟".
أرسل تعليقك