يفاجأ الجمهور الفلسطيني كل يوم بعمليات فردية، طعنًا أو دهسًا، تترافق على المستوى الشعبي مع مواجهات محدودة في بعض مناطق الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مثل الحواجز العسكرية ومحطات الحافلات على الطرق المؤدية إلى المستوطنات.
وتشكل الهبة تحديًا كبيرًا، أمنيًا وسياسيًا، لإسرائيل، فمن الناحية الأمنية، تعترف الدولة العبرية بعجزها عن مواجهتها بسبب عدم قدرتها على توقع الهجوم التالي، وتاليًا على اتخاذ إجراءات "وقائية" من نوع اغتيال من يخطط للقيام بهجوم، كما دأبت على القيام به في الانتفاضتيْن الثانية والأولى.
ومن الناحية السياسية، لا تخفي إسرائيل أيضًا "حيرتها" إزاء الأسلوب الأنجع لمواجهتها، إذ ظهر قادة يدعون إلى تقديم مناطق جديدة للسلطة الفلسطينية لإدارتها، وتسهيلات للمواطنين، فيما طالب آخرون برد "رادع" ضد المناطق "ج" التي تشكل 60 في المائة من مساحة الضفة.
وفلسطينيًا، لا يخفي المسؤولون في السلطة الوطنية سعيهم إلى احتواء الهبة ومنع تحولها إلى مواجهة مفتوحة تؤدي إلى انهيار السلطة، أو انهيار الاقتصاد على أقل تقدير، وتكرار تجربة الاجتياحات في الانتفاضة الثانية والقصف والاغتيالات وغيرها.
فمنذ بدء الهبة مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عقد الرئيس محمود عباس اجتماعات عدة مع قادة أجهزة الأمن ورؤساء الأقاليم في "فتح" والمحافظين طلب منهم فيها الحفاظ على سلمية الهبة الشعبية والحيلولة دون دخول السلاح فيها وتحولها إلى مواجهة عسكرية.
وقال مسؤولون شاركوا في الاجتماعين إن الرئيس عباس أوصى قادة "فتح" بقيادة الهبة الشعبية وتوجيهها إلى عملية مقاومة شعبية سلمية لا عنف فيها، كما أصدر تعليمات مشددة إلى أجهزة الأمن لمنع اقتراب أي مسلح من المواجهات، وعدم القيام بأي هجمات مسلحة من التجمعات السكانية، محذرًا من نتائجها الدموية على المدنيين الفلسطينيين وعلى منظومة الحياة في البلاد.
وطالب مسؤولون أميركيون الرئيس عباس بالتدخل لوقف الهبة الشعبية، لكنه أبلغهم أن لا السلطة، ولا أي جهة أخرى قادرة على وقف شاب يخرج من بيته صباحًا وفي نيته القيام بعملية فردية غير مسلحة، مثل الطعن والدهس.
وحمل القنصل الأميركي أخيرًا اقتراحًا للرئيس عباس يقضي بوقف الهبة الشعبية في مقابل تقديم الحكومة الإسرائيلية تسهيلات واسعة للفلسطينيين، منها توسيع مناطق السلطة الفلسطينية في المنطقة "ج" وتسهيل الاستثمار في هذه المنطقة وإزالة الحواجز وغيرها. لكن الرئيس الفلسطيني أبلغه أن التهدئة في حاجة إلى اختراق سياسي وليس إلى تغيير في الشؤون الحياتية، مطالبًا بتجميد الاستيطان وإطلاق أسرى ما قبل اتفاق أوسلو.
وأعاد وزير الخارجية الأميركي جون كيري تقديم الاقتراح نفسه إلى الرئيس عباس في لقائهما الأخير في رام الله قبل أيام، ولاقى الجواب نفسه، وفق مسؤولين شاركوا في الاجتماع.
ولا تخفي حركة "حماس" أيضًا، ومعها إلى حد كبير "الجهاد الإسلامي"، شكوكهما العميقة إزاء موقف السلطة من الهبة الشعبية، وإمكان استغلالها من قبلها لتحريك العملية السياسية، الأمر الذي يجعل الحركتيْن تفضلان، في هذه المرحلة، عدم تبني هذه الهبة، وتركها تسير وفق إيقاعها اليومي، وطابعها الفردي، انتظارًا للتطورات.
ويقول مسؤولون في "حماس" إن الحركة لن تلقي بثقلها في هبة شعبية وهي ترى السلطة الفلسطينية تحاول استثمارها للعودة إلى العملية السياسية بشروط أفضل. وقال مسؤول رفيع في الحركة: "نرى أن السلطة الفلسطينية تسعى إلى استثمار هذه الهبة من أجل تحسين مكانتها في العملية التفاوضية، ونرى أجهزة الأمن وهي موجودة في كل مناطق الاحتكاك بزي مدني، لذلك لا نستطيع أن نلقي بثقلنا فيها لأن أعضاء الحركة سيكونون عرضة إلى الملاحقة من السلطة وإسرائيل.
وأضاف أن "حماس" تشارك في الهبة الشعبية، لكن بأعداد محدودة من أعضائها، خصوصًا من طلاب الجامعات، لأن لديها مخاوف شديدة من نيات السلطة. وأضاف: "ننتظر التطورات، فإذا كانت هناك نية جدية لدى السلطة وحركة فتح لخوض انتفاضة، فإننا نلقي بكل ثقلنا فيها كما فعلنا في الانتفاضة الثانية، لكن إذا بقيت الأمور على هذا النحو، فسنظل حذرين جدًا". وتابع أن السلطة اعتقلت عددًا من أعضاء "حماس" حتى أثناء الهبة، في حين تم استدعاء عدد آخر للتحقيق، الأمر الذي يعزز من شكوك الحركة إزاء نيات السلطة.
وأمام الشكوك والشكوك المتبادلة من القوى الفاعلة في الشارع، وضعف القوى الأخرى، فإن مصير الهبة الشعبية يظل مجهولًا، ويخضع إلى التوجهات الفردية في الشارع الفلسطيني أكثر منه للقوى السياسية.
أرسل تعليقك