أطلت علامات الاستفهام عن إمكانية عدول أنقرة عن موقفها بعد استعادتها أولئك الرهائن، خصوصاً بعدما تبارى كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته، تشاوش أوغلو، خلال المنتدى المخصص لمكافحة التطرف على هامش اجتماعات الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، في التشديد على استعداد بلدهما لتقديم الدعم العسكري أو المساعدة اللوجيستية في مجال الإمداد والتموين للحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد متشددي تنظيم "داعش"في سورية. الأمر الذي دفع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لتأكيد، إثر لقائه نظيره التركي، أن أنقرة تعهدت بالمشاركة في التحالف ضد التنظيم المتشدد، وستكون في صفوفه الأمامية.
وعلى رغم أن استعادة تركيا رهائنها، حررتها، ولو ظاهرياً أو جزئياً، من بعض القيود التي كانت تكبل قرارها بهذا الخصوص، إلا أن معوقات أخرى لا تزال معلقة ربما تجعل من تراجع تركيا عن موقفها بقصر مشاركتها العلنية في الحرب ضد تنظيم "داعش" وأعوانه على المهمات اللوجيستية والإنسانية ومنع تدفق المقاتلين عبر أراضيها إلى صفوف تلك التنظيمات المتشددة من كل حدب وصوب، ضرباً من المستحيل.
ومن أبرز تلك المعوقات أن إعلان الحكومة التركية في تشرين الأول /أكتوبر 2013، أن "داعش" تنظيم متشدد، لم يحل دون تعاطف قطاع، من الشعب التركى، خصوصاً وسط مؤيدي حزب "العدالة" الحاكم، مع ذلك التنظيم ودعمهم لقيمه المحافظة، وتتخوف الحكومة التركية من أن تفضي مشاركتها العسكرية في التحالف الدولي المعني بمحاربته إلى تحريك نزعات العنف لدى التيارات والعناصر الدينية المتشددة داخل تركيا، خصوصاً بعدما أظهر عدد من التقارير الأمنية والاستخبارية أن غالبية الأطراف الدولية الإقليمية المؤثرة، التي تشارك في التحالف الدولي ضد "داعش"، تقطنها قطاعات مؤيدة للتنظيم أو متعاطفة معه، كما خرجت منها عناصر تقاتل في صفوفه. كما خلص باحث تركي إلى أن حوالى 10% من مقاتلي تنظيم "داعش"هم مواطنون أتراك، الأمر الذي يثير مخاوف تلك الدول مجتمعة، خصوصاً تركيا، من قيام خلايا نائمة تابعة للتنظيم بتنفيذ عمليات انتقامية داخل هذه الدول، كانت تركيا شهدت عينة منها في آيار/ مايو الماضي في منطقة الحدود مع سورية.
وتستبد بتركيا مخاوف من الحسابات المعقدة في ما يتصل باليوم التالي لانتهاء الحرب على تنظيم "داعش" خصوصاً ما يتعلق بملء الفراغ الجيوإستراتيجي والإثني الناجم عن ذلك، في البلدين، خصوصاً بعدما أعلن أوباما في كلمته أمام الأمم المتحدة عدم ممانعته اضطلاع قوات الأسد بهذه المهمة، لافتاً إلى أن حل الأزمة السورية سياسي بامتياز. وهي تصريحات مثيرة تبعث على قلق الأتراك، إذ تزامنت مع تأكيد مسؤولين أمنيين غربيين أن الأسد زود واشنطن بمعلومات مهمة عبر طرف ثالث عن "داعش" في سورية قبل الغارات الجوية. وبقدر ما تعزز هذه التطورات من أزمة الثقة بين واشنطن وأنقرة، تتخوف الأخيرة وهذه الدول من أن تؤسس لتوسيع وتعزيز التموضع الإستراتيجي لإيران والكتائب الشيعية التابعة لها على نحو يفاقم النفوذ الإيراني في سورية والعراق ويزيد من الخلل في موازين القوى الإقليمية، خصوصاً بعد أن أحكم "الحوثيون" سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء.
وعلى رغم جنوحها أخيراً لتقبل إعلان دولة كردية مستقلة في شمال العراق بعد تنسيق المصالح الاقتصادية والإستراتيجية المشتركة وترتيب الاعتبارات الإثنية مع قيادات الإقليم، ما برحت تركيا تحديداً تتوجس خيفة من أن يسفر الإجهاز على تنظيم "داعش" وأعوانه في سورية عن نجاح حزب "الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري"، الذي يعد الفرع السوري لحزب "العمال الكردستاني" بقيادة عبدالله أوجلان، في تحقيق مآربه وكسب تعاطف المجتمع الدولي معه والسماح له بإعلان كيان كردي مستقل أو يتمتع بالحكم الذاتي في كردستان سورية كمكافأة له على المشاركة في قتال"داعش"وأنصاره، ليكون ثاني إقليم كردي مستقل على حدود تركيا الجنوبية، ما يلهب حماس أكراد تركيا ويرفع سقف مطالبهم على نحو يفخخ عملية السلام القلقة والمتعثرة بينهم وبين الحكومة التركية.
وتتطلع أنقرة إلى أن تتمخض أية عملية محتملة لإعادة هندسة الخرائط الجغرافية والإثنية في العراق وسورية بعد التخلص من تنظيم "داعش"، عن توفير فرص مثالية أمام الأتراك لبلوغ مغانم إستراتيجية هائلة من قبيل استعادة محافظة الموصل، التي كانت تضم معظم إقليم كردستان الحالي، إضافة إلى أجزاء من محافظة نينوى الحالية، بعدما تخلت عنها بموجب اتفاق العام 1926 مع بريطانيا والعراق. وهو حلم تركي قديم لا يزال يداعب مخيلة الأتراك منذ أيام أتاتورك، الذي صرح بعد التخلي عن الموصل بأنه: "عندما تمتلك تركيا القدرة على استعادتها فستفعل».
وبدوره، عمد الرئيس السابق تورغوت أوزال إلى إرسال قوات تركية لاحتلال شمال العراق أثناء حرب تحرير الكويت العام 1991 لإنشاء فيدرالية بين أكراد العراق وتركيا، تستعاد خلالها الموصل ونفطها، لكن معارضة الجيش التركي ورئيس الحكومة حينها يلديريم آق بولوت، حالت دون ذلك. وفي الثامن من شباط /فبراير العام 2007، قال الرئيس التركي السابق عبدالله غول: "لقد أعطينا الموصل في العام 1926 إلى عراق موحد، والآن نريد أمامنا عراقاً موحداً"، في إشارة إلى أنه في حال تقسيم العراق وعدم بقائه موحداً، فإن لتركيا الحق في استعادة الموصل.
ومن شأن تقسيم العراق، إذا ما أعقب الحرب على "داعش"، أن يوجد، في نظر أنقرة، دولة سنّية محاذية وموالية لها، ما يوفر لتركيا نفوذاً غير مسبوق في العراق. إذ يمكن مثل هذه الدويلة السنّية أن تمد الجسور الجغرافية، على اعتبار أنها ستضم محافظتي الأنبار ونينوى، بين تركيا والسعودية، بما يساعد على تقويض "الهلال الشيعي"وإنهاء التواصل الاستراتيجي بين طهران وبغداد من جانب، وبين دمشق و "حزب الله"في لبنان من جانب آخر، بما يوجه ضربة قوية الى النفوذ الإيراني المتغلغل في ربوع المنطقة.
ويبدو أن السلطات التركية عازمة على المضي في انتهاج إستراتيجيتها المزدوجة في التعاطي مع الحرب على "داعش"، بحيث يكمن شقها الأول المعلن في التشديد على الدور اللوجيستي والإنساني لتركيا في هذه الحرب، وتلافى، في الوقت ذاته، إظهار التورط العسكري في محاربة "داعش" مخافة استثارة دوائر تركية متعاطفة معه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ حزب العدالة ومسيرته، أو التعرض لعمليات انتقامية موجعة من التنظيم وأعوانه.
أما شقها الآخر الخفي، فيتجلى في عدم تردد أنقرة في تقديم مختلف صور التعاون العسكري الممكنة مع التحالف الدولي سراً، حيث أوردت صحيفتا "فايننشال تايمز"البريطانية و "طرف" التركية المعارضة، أن الرئيس التركي أردوغان بلور خلال اجتماع مغلق عقده أخيراً مع ممثلي وسائل الإعلام، الموالية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، عرضاً لخطة التعامل مع التحالف الدولي ضدّ تنظيم "الدولة الإسلامية"، تقوم على إطلاق حملة إعلاميّة، بشأن موقف تركيا من التحالف بعد رفضها التوقيع على بيان لقاء جدّة، هدفها إظهار رفض تركيا الاشتراك في أي عمل عسكري للتحالف، مع تقديم المساعدات العسكرية له سراً بما في ذلك فتح القواعد العسكرية الأميركية الموجودة على الأراضي التركية، وذلك تفادياً لأية اضطرابات قد تحدث داخل القاعدة الشعبيّة لحزب العدالة والتنمية، أو بين صفوفه.
ورداً على إعلان المرصد السوري لحقوق الانسان أن الطائرات التي نفذت الغارات الجوية ضد أهداف تخريبية غربي مدينة عين العرب، المعروفة أيضاً باسم كوباني، على الحدود التركية - السورية، جاءت من جهة تركيا، بادر مسؤولون أتراك بنفي قاطع لأن يكون المجال الجوي التركي قد استخدم لتنفيذ ضربات جوية ضد معاقل تنظيم "داعش" في سورية.
وشدد مسؤولان في مكتب رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، على أن "لا المجال الجوي التركي ولا قاعدة أميركية في بلدة أنجيرليك في جنوب تركيا استخدما في الضربات الجوية بقيادة الولايات المتحدة ضد متـشددي تنظيم "داعش".
وعكفت الحكومة التركية على تأكيد التزامها بحدود دورها اللوجيستي والإنساني في الحرب على "داعش"، إذ أكد وزير الخارجية، تشاوش أوغلو خلال منتدى مكافحة التطرف على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن بلاده أخذت على عاتقها تحمل أعباء منع المقاتلين من عبور أراضيها بغية الوصول إلى التنظيمات التخريبية في سورية والعراق عبر تخصيص إمكانات لرصدهم وترحيلهم فور اكتشافهم وتوقيفهم، لافتاً إلى أنها حققت إنجازات مهمة بهذا الصدد، وفق تصريحاته، إذ جرى حتى الآن منع آلاف المتشددين من دخول الأراضي التركية، فيما تم ترحيل أكثر من 1000 مقاتل أجنبي أتوا من نحو 75 بلداً.
أرسل تعليقك