أثار إعلان زعيم المعارضة السودانية الصادق المهدي، رغبته العودة للبلاد وقيادة العمل المعارض من الداخل، جدلاً واسعاً وتكهنات للبحث عن مدلولات الإعلان، وصلت حد وجود ثمة «صفقة دولية» قد تقود لتسوية سياسية شاملة في السودان، أطلق عليها بعضهم «الهبوط الناعم».
كما أسهمت «تلميحات» بإمكانية العمل من الداخل؛ وردت في مقال الأمين العام لـ«الحركة الشعبية لتحرير السودان» ياسر سعيد عرمان، في تعزيز فكرة أن المعارضة المسلحة والمدنية المنضوية تحت تحالف «نداء السودان»، ربما تعود للداخل وشيكاً.
وواكبت الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس جنوب أفريقيا الأسبق ثابو مبيكي، الذي يتولى الوساطة بين الخرطوم ومعارضيها، نهاية الأسبوع الماضي، بعد انقطاع طويل، طرح الأسئلة القديمة حول العودة لمنصة التفاوض بعد تعثر طويل لـ«خريطة الطريق» الأفريقية حول التسوية في السودان.
والتقى مبيكي في زيارته الخرطوم وفداً يمثل تحالف «نداء السودان»، الذي يتزعمه المهدي، يتكون من رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير، والأمين العام لحزب الأمة سارة نقد الله، ونائب رئيس التحالف حامد على نور، ومحمد فاروق سلمان عن حزب التحالف الوطني.
وفي اللقاء، أكد مبيكي على مقترحه الجديد بالدعوة لحوار مباشر حول كتابة دستور البلاد وانتخابات 2020، بيد أن الوفد رأى في المقترح تجاوزاً لـ«خريطة الطريق» التي أكد التزامه بها، وتنص على عقد اجتماع تمهيدي لتهيئة المناخ قبل الدخول في أي حوار حول قضايا الأزمة الوطنية للوصول لحل سياسي شامل متوافق عليه بين الجميع.
ومع ذلك، أكد مبيكي عزمه ووساطته على استئناف المفاوضات، والوصول لوقف العدائيات وفتح مسارات الإغاثة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وأنه سيدعو لاجتماع تشاوري في الفترة المقبلة.
موقف المهدي هو الأكثر وضوحاً، فهو قد أعلن باكراً أنه يسعى لتغيير سلمي جماهيري، عبر مفاوضات انتقالية، أو ما سماه «كوديسا سودانية» على قرار تجربة الحقيقة والمصالحة جنوب الأفريقية، وأدت لإنهاء الفصل العنصري، أو تغيير نظام الحكم عن طريق انتفاضة الشعبية وعصيان مدني، حال عدم نجاح الخيار الأول، لكن المهدي الذي يواجه لدى عودته محاكمة باتهامات قد تصل عقوبتها الإعدام، بدا مستعداً لمواجهة تلك الاتهامات، وقال إنه سيحولها لمحاكمة للنظام.
وفي مقاله الذي أثار «بلبلة» في الأوساط السياسية، فإن الأمين العام للحركة الشعبية - جناح الحلو، ياسر سعيد عرمان ومسؤول العلاقات الخارجية في التحالف المعارض، لمح إلى تغير في المواقف تجاه الانفتاح، واعتبره «أمراً لا يستحق الاعتذار من أحد».
وأكد عرمان أن «كل حرب يجب أن تكون نهاياتها سلاماً، وحروب السودان الحالية أفضل طريقة لحلها عبر التسوية السياسية الشاملة والسلام العادل»، وأن «ميدان المعركة الحقيقي» في الداخل، وأن «أفضل طريقة لوقف الحروب التسوية السياسية الشاملة والسلام العادل، الذي لا يستحق الاعتذار من أحد».
من جهتها، فإن حكومة دولة جنوب السودان قد تضغط هي الأخرى على حلفائها من المعارضين لقبول التسوية، ليس لأن ملفي السلام والحرب في البلدين متشابكان وحده، بل «رداً لجميل الخرطوم» في توقيع اتفاق السلام بين الفرقاء في الدولة الوليدة.
ونقل مصدر، أن جوبا استضافت زعيم الحركة الشعبية - الشمال عبد العزيز الحلو، الأسبوع الماضي، قبل مغادرته إلى أديس أبابا للقاء مسؤولين غربيين، ملمحاً إلى أن جوبا تسعى لجمع المعارضة السودانية المسلحة والمدنية، لدفعها باتجاه توقيع اتفاق سلام مع حكومة الخرطوم، وهو ما يتسق مع تصريحات الرئيس البشير 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بأن «السلام في الجنوب أكبر خطوة للسلام الشامل في السودان».
إبداء المهدي لرغبته في العودة، ومقال عرمان والأفكار الجديدة التي طرحها فيه، وزيارة مبيكي المفاجئة، وتحركات جوبا السرية، تشير كلها إلى أن المعارضة «نداء السودان» على وجه الخصوص تتجه لتغيير رؤاها السياسية، استناداً إلى أن المتغيرات الدولية والإقليمية لم تعد كلها لصالحها، وأن التمترس حول المواقف القديمة لن يوصلها لأهدافها، ما يفرض عليها التعاطي مع تلك المتغيرات، بعد أن أعاد نظام الحكم في الخرطوم تسويق نفسه للمجتمع الدولي والإقليمي، فرفعت عنه العقوبات ويقود تفاوضاً مع الولايات المتحدة الأميركية لحذف اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتطبيع العلاقات معها، يحدث ذلك على الرغم من أزمته السياسية والاقتصادية الخانقة.
الطرف الآخر من المعارضة «قوى الإجماع الوطني»، ويتكون أساساً من أحزاب تغلب عليها الصبغة اليسارية، وأبرزها الحزب الشيوعي السوداني، فيتمترس أمام خيار وحيد وهو «إسقاط نظام حكم الرئيس عمر البشير عبر انتفاضة شعبية»، وإنه ما زال يراهن على جماهير يقول المراقبون إنه لم يعمل في وسطها بما يجعله قادراً على تحريكها.
أما الحركات المسلحة التي «كانت» تقاتل الخرطوم في ولايات دارفور والمنطقتين «جنوب كردفان، النيل الأزرق»، فالتحقت، ما عدا «حركة تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد محمد نور، بتحالف «نداء السودان»، ومن الراجح أن أوضاعاً ميدانية ودولية دفعت بها لتبني الخط الجديد.
من الجانب الحكومي، التقى الرئيس عمر البشير، الخميس، الوسيط مبيكي، وجدد له دعوته لـ«جميع» قوى المعارضة للمشاركة في كتابة الدستور وانتخابات 2020، على الرغم من أن تحالف «نداء السودان» كان قد رفض سبتمبر (أيلول) الماضي مقترحات مبيكي بابتدار حوار بين الطرفين حول الأهداف ذاتها.
استناداً إلى «الحراك التصالحي» الذي بدأ صوته يعلو، فإن كلا التحالفين لا يملكان «الآن على الأقل» آليات فرض برنامجيهما المعارضين، فتحالف «نداء السودان» لا يملك آليات الضغط الكفيلة لجعل نظام الحكم يقدم التنازلات التي يطالب بها من أجل التسوية، ويتهكم محللون من دعوات التسوية على طريقة جوهانسبرغ بقولهم: «المعارضة ليس فيها مانديلا، والحكومة ليس فيها دوكليرك، فكيف تتحقق المصالحة والمساواة».
أما تحالف «قوى الإجماع»، فعلي الرغم من شعاراته ومواقفه الرافضة لأي تسوية مع النظام، بل تطالب بـ«اقتلاعه من جذوره»، فهو لا تملك و«أيضاً على الأقل الآن» الثقل الجماهيري والشعبي، ولم تتوفر لقواه فرص تعبئة الجماهير من أجل الثورة.
كلا الاحتمالين تنقصه الآليات، لكن في المقابل فإن النظام الحاكم هو الآخر وصل مرحلة من الضعف والوهن السياسي والاقتصادي والأمني، الذي يجعله آيلاً للسقوط التلقائي في أي لحظة، مما قد يوصل إلى انهيار الدولة.
ورغم ضعفه البائن، فإن نظام الحكم استطاع الصمود قرابة ثلاثة عقود من الزمان، على الرغم من الضغوط الداخلية والخارجية الواقعة عليه، فمن جهة يواجه أزماته الداخلية، ومن الجهة الأخرى يواجه انعكاسات هذه الأزمات وسوء سياساته الداخلية والخارجية، وهو ما أتاح للمعارضة تلقي دعم دولي عريض، فيما ظل النظام يتلقى عصا العقوبات بظهره العاري.
لكن الثقل الخارجي خف عن ظهر الحكومة، بعد أن أفلحت ونتيجة للمتغيرات الإقليمية والدولية في إعادة تسويق نفسه، بإلغاء العقوبات، وإرسال رسالة للمجتمع الدولي بأن إسناده للمعارضة لم يعد ذا جدوى، لا سيما وأنه ظل يدعمها طويلاً دون جدوى.
المعارضة والحكومة وصلا مرحلة «توازن الضعف»، وهو «توازن قلق» بطبعه، وقد يختل بغته، لكنه ولدهشة الجميع ظل متوازناً، ما جعل الكثيرين يفكرون في طريق ثالث، يخرج البلاد من أزمتها إلى وضع جديد، في وقت يبدو فيه أن المجتمع الدولي لم يعد يولي القضية السودانية اهتمامه الأول، بل بدأ يدفع حلفاءه المعارضين للعودة للخرطوم.
المهدي استبق الجميع وأعلن قرب عودته، ويبدو أن عودته، بحسب محللين، استباق لشيء ما يجري في كواليس المجتمع الدولي، قد يجبر الجميع على التخلي من مواقفهم المتشددة، والخضوع لأشراط اللعبة الجديدة، ومن سماتها أن قوى المعارضة لم تعد بالأهمية ذاتها للقوى الدولية التي كانت تساندها من قبل.
أرسل تعليقك