حملت التحذيرات الروسية المتتالية خلال الأسبوع الأخير من "تصعيد نشاط المتشددين في إدلب" رسائل بأن المهلة التي حددتها موسكو للجانب التركي خلال اجتماع سوتشي ستكون الأخيرة، وأن قرار الحسم العسكري قد اتخذ وينتظر التوصل إلى توافق على التفاصيل لتخفيف تداعيات العملية المحتملة.
وبدا واضحًا منذ أن أطلقت موسكو تحذيرها الأول بأنها لن تصمت طويلًا على استهداف قاعدة حميميم بالطائرات المسيرة التي تنطلق من إدلب، وأن الترتيبات النهائية للوضع في المدينة باتت تقترب، وأن الحشود العسكرية المتواصلة والتحضيرات الميدانية تسابق الجهود الدبلوماسية التي نشطت في موسكو وأنقرة؛ لكن على الرغم من "التسخين الميداني" الذي أعقب فشل موسكو وطهران من جانب وأنقرة من جانب آخر في التوصل إلى توافقات بشأن آليات تسوية الوضع في إدلب، تظهر تعليقات مسؤولين دبلوماسيين وعسكريين في موسكو قناعة بأن "الأمور تسير نحو تفاهم يسهِّل السيطرة على إدلب من دون خسائر كبرى".
العملية العسكرية في إدلب
وقال مصدر روسي في تصريح إلى جريدة "الشرق الأوسط"، "إن "العناصر التي تجمع تركيا وروسيا أكبر بكثير إقليميًا ودوليًا من أن يسمح الطرفان بالتفريط بها في خلاف على آلية تسوية الوضع في إدلب".
وأشار المصدر إلى توقعات بأن تكون العملية العسكرية في إدلب "مختلطة وتعكس تحالفات معقدة"، في إشارة إلى أنها في الغالب ستحمل تكراراً لسيناريو السيطرة في الجنوب السوري، لجهة وجود انقسامات واسعة في صفوف المسلحين حول دور جبهة النصرة وآليات التعامل معها. ولم يستبعد أن تنضمّ مجموعات كبيرة من مسلحي المعارضة إلى الجيش السوري والروس في مواجهة جبهة النصرة والقوى المتحالفة معها، ضمن ما وصفه بأنه "تحالف الأمر الواقع على الأرض".
المصالحات الميدانية
ورأى خبير عسكري يتفق مع هذا الرأي أن "عنصرَي المصالحات الميدانية والمزاج العام عند قطاعات من المواطنين الذين لا يرحبون كثيراً بعودة النظام، لكنهم تعبوا من سيطرة المسلحين"، سيلعبان دوراً كبيراً في "حسم سريع للمعركة"، خصوصاً أن عدداً من الفصائل الموجودة في إدلب وقطاعات شعبية واسعة، "لا تثق بالنظام لكنها ترى أنه يمكن الركون إلى ضمانات روسية".
ولفت المعلق إلى أن وقائع التقدم الميداني "أبرزت تطورًا مهمًّا في طبيعة وحجم العمليات العسكرية التي خاضها النظام مدعومًا من روسيا لجهة تراجع الفترة الزمنية اللازمة للحسم تدريجاً من حلب إلى الغوطة ثم درعا"، متوقعًا أن تكون معركة إدلب "استكمالاً لهذا المسار على الرغم من كل التحذيرات المتعلقة بتجمع أعداد كبيرة من المقاتلين والمدنيين الذين انتقلوا من مناطق مختلفة إلى المدينة".
الجهود التركية لتوحيد "جيش واحد"
ولفتت وسائل إعلام روسية إلى أن الجهد الذي قامت به تركيا أخيرًا لمحاولة توحيد صفوف المعارضة في إطار "جيش واحد" تصبّ في الاتجاه الذي تسعى إليه موسكو، لجهة توحيد الجهد للفصل بين المعارضة و"جبهة النصرة"، بما في ذلك استعداد هذا "الجيش" لخوض معركة لإبعاد مسلحي "النصرة" عن المواقع المهمة.
ونقل بعضها عن محللين في تركيا، أنه "لا يمكن لروسيا وتركيا أن تسمحا لنفسيهما بتناقضات خطيرة بينهما، وإلا فإن صيغة (آستانة) ستفشل. وهي مهمة للجميع بديلاً عن عملية جنيف التي فقدت معناها".
ورأى خبير تركي أن روسيا وتركيا "ستنجحان في القضاء المشترك على نفوذ الإرهابيين في بعض مناطق إدلب. أما بالنسبة للجيش السوري الحر، فهناك مجموعات في صفوفه لا تعارض التقارب مع النظام. وعلى الأرجح، سوف يتم تفاهم بين النظام والمعارضة السورية في إدلب. وهناك، بالتالي، حاجة لوساطة تركيا ولتكثيف التنسيق مع روسيا في هذا الأمر".
مباحثات "روسية - تركية" مرتقبة
وفي هذا السياق أعلنت الخارجية الروسية، أمس، أن الوزير سيرغي لافروف سيزور أنقرة الاثنين المقبل لبحث الوضع في سورية مع نظيره التركي.
وتعكس هذه التأكيدات وغيرها، قناعة بأن العملية العسكرية في إدلب ستكون محدودة، وقصيرة زمنيّاً، ولم يستبعد خبير عسكري أن يجري تقسيم المنطقة وفقاً للآلية التي جرت في الغوطة، بعد حصر المقاتلين الأكثر تشدداً في بلدة واحدة ما سهَّل حسم المعركة معهم.
وتؤكد الأوساط الروسية أن الجهود الحالية للتفاهم حول آليات حسم الوضع في إدلب ستؤدي إلى تخفيف تداعيات العملية العسكرية المحتملة في إدلب، على المستوى الإنساني.
ارتفاع حالات اللجوء
وخفف مصدر مقرب من الخارجية الروسية تحدثت معه "الشرق الأوسط" من احتمالات بروز حالات لجوء واسعة النطاق بسبب العمليات العسكرية، وقال "إن تقارير الأمم المتحدة بشأن احتمال فرار نحو 700 ألف نسمة "مبالغ فيها"، متوقعا ألا تزيد الأرقام على "ثلث التوقعات" في أسوأ الأحوال، مشيرًا إلى أن موسكو ستعمل مع شركائها على إيواء اللاجئين في حال ظهرت الحاجة في المراكز التي أعلن أخيراً عن افتتاحها في مدن عدة، وأنها ستستخدم هذه المراكز لاستقبال ألوف المدنيين الذين انتقلوا أصلاً من مدن أخرى إلى إدلب خلال السنوات الأخيرة، في حال قررت أعداد منهم مغادرة المدينة.
معركة محتملة في إدلب
وكان مستشار الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سورية يان إيجلاند، أكد أن روسيا وتركيا وإيران أبلغوا اجتماعاً لقوة مهام الشؤون الإنسانية في سوريا، أمس، أنهم سيبذلون ما في وسعهم لتفادي معركة من شأنها تهديد ملايين المدنيين في محافظة إدلب السورية.
وقدر إيجلاند عدد السكان في المحافظة الواقعة شمال سورية بنحو أربعة ملايين أو أكثر، وأبدى أمله في أن يتوصل المبعوثون الدبلوماسيون والعسكريون إلى اتفاق لتجنب "إراقة الدماء"؛ لكنه قال "إن الأمم المتحدة تجري تحضيرات للمعركة المحتملة، وستطلب من تركيا إبقاء حدودها مفتوحة للسماح للمدنيين بالفرار إذا تطلب الأمر".
وفي حين تتجّه الأنظار إلى تحضيرات العملية العسكرية وتداعياتها المحتملة، فإن وسائل الإعلام الروسية بدأت تركز على "اليوم التالي"، باعتبار أن حسم الوضع في إدلب بات في حكم المؤكد، وأنه سيؤدي إلى تكريس "الانتهاء الفعلي لكل العمليات العسكرية الواسعة في سورية".
وكان لافتًا أن تعليقات وكالات الأنباء الروسية الرسمية والصحف الكبرى حفلت خلال الأيام الأخيرة بعناوين بارزة تركز على "الانتصار" و"الاقتراب من إنهاء الحرب في سوريا".
ولفتت وكالة "نوفوستي" الرسمية إلى أن التحدي الأساسي حالياً أمام روسيا وحلفائها "ليس أننا ربحنا الحرب فقط بل أن نربح في إدارة التسوية النهائية، وعنوانها حل ملف اللاجئين ومسألة إعادة الإعمار". وزاد المعلق السياسي للوكالة أنه "من الواضح أن واشنطن لا ترغب حتى الآن في الانضمام إلى حلف المنتصرين في هذه الحرب؛ روسيا وتركيا وإيران، والعمل معهم في مرحلة ما بعد الحرب".
واللافت أن كل التعليقات الروسية خلال الفترة الأخيرة، تجاهلت مسار "جنيف" ومسائل التسوية السياسية وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، وباتت تركز على أولوية ملفي اللاجئين والإعمار.
ووجهت انتقادات قاسية إلى الأطراف التي تعارض هذا التوجه، خصوصاً في واشنطن، علماً بأن الوزير سيرغي لافروف كان أطلق هذه الحملة الأسبوع الماضي عندما انتقد بقوة "إصرار واشنطن وبعض حلفائها على ربط المشاركة في جهود الإعمار وإعادة اللاجئين بالتوصل إلى حل سياسي".
وبدأت موسكو في مقابل هذا التوجه، استعدادات واسعة للتحضير للاجتماع الرباعي المقرر في تركيا في السابع من الشهر المقبل.
وكانت أنقرة دعت إلى عقد قمة تجمع زعماء روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا لبحث الملف السوري، وبينما تسعى موسكو إلى حسم الموقف في إدلب قبل القمة، فإن تعويلًا كبيرًا ينصبّ على هذا اللقاء.
توسيع آلية "آستانة"
ويشير دبلوماسيون روس إلى أن اللقاء يهدف إلى "توسيع آلية "آستانة" واستبدال بها آلية دولية" تضع ملامح التسوية النهائية في سورية انطلاقًا من الجهد القائم حاليًا، لتقديم مساري عودة اللاجئين والإعمار، وموضوع الإصلاح الدستوري الذي يجب أن يؤدي إلى وضع دستور جديد تجرى على أساسه انتخابات في سوريا لاحقًا.
وردّاً على سؤال "الشرق الأوسط" عما إذا كان هذا يعني تجاهل مسار جنيف ووضع بديل عنه، قال دبلوماسي روسي طلب عدم نشر اسمه، إن "مسار (جنيف) مؤجَّل إلى وقت بعيد"، مشيراً إلى أن الأهم حالياً هو وضع قطار إعادة الإعمار وتسهيل عودة اللاجئين على مسار التنفيذ، ولفت إلى أن المسار الموازي المتمثل في الإصلاح الدستوري سيكون الرافعة الأساسية لأي تسوية سياسية، مشيراً إلى أن "الحاجة سوف تظهر لاحقاً للعودة إلى جنيف بعد انتهاء اللجنة الدستورية من العمل، بهدف وضع آلية لتطبيق قراراتها وإدارة عملية انتخابية وفقاً للدستور الذي سيتم وضعه".
أرسل تعليقك