تتّجه الهند والصين، الكبيرتين في الموارد البشرية والاقتصادية، إلى مواجهة دبلوماسية جديدة مع استضافة الهند للزعيم الروحي التبتي المنفي الدالاي لاما، في إحدى المناطق الحدودية شديدة الحساسية التي تسيطر الهند عليها ولكن تزعم الصين أحقيتها فيها، وهي منطقة أروناتشال براديش.
وتصاعدت التوترات بين البلدين إلى مستويات حذّر الخبراء من أنها قد تهدّد الأمن والسلام الهش الذي حافظت عليه الدولتان منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي، فلقد لعبت الهند، بين الحين والآخر، بورقة التبت لمواجهة التحركات الاستراتيجية الصينية، لذلك فإن الخطوة الجديدة المتخذة من جانب الهند يمكن ربطها، وعلى نحو سريع، بمحاولة نيودلهي الانتقام من بكين لمضيها قدما في طريق تشييد الممر الاقتصادي في باكستان، والذي يمر عبر المنطقة التي تسيطر عليها باكستان من إقليم كشمير المتنازع عليه مع الهند، الأمر الذي أعلنت الهند احتجاجها عليه بصورة رسمية.
وتعمّدت بكين كذلك وضع العراقيل في طريق انضمام الهند إلى مجموعة الموردين الدوليين للمواد النووية، وأقامت كثيرًا من مشروعات البنية التحتية في كل من سريلانكا، وباكستان، وبنغلاديش، مثل الموانئ، والطرق السريعة، وخطوط السكك الحديدية، الأمر الذي يثير مخاوف الهند التي تعتبر المحيط الهندي مثل الفناء الاستراتيجي الأساسي لها.
ويقول الدبلوماسي الهندي المتقاعد، إم آر بهانداركار، معلقا إنّه "تجدد اهتمام الحكومة الهندية بإقليم التبت في ضوء الإدارة الأميركية الجديدة في البيت الأبيض، فلقد لمح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إنهاء الولايات المتحدة لما يُسمى بسياسة "الصين الواحدة"، وسوف تستمر قضية إقليم التبت في احتلال مركز الصدارة كلما ثار هناك خلاف استراتيجي كبير بين نيودلهي وبكين"، وحذرت الصين جارتها بشكل رسمي من الأضرار الجسيمة على العلاقات المتبادلة، وتنامي حالة عدم الاستقرار الإقليمي، إذا ما قام الدالاي لاما بزيارة المنطقة في الرابع من أبريل/نيسان المقبل.
وتزعم الصين أن أغلبية المنطقة هي جزء مما تطلق عليه التبت الجنوبي، ويعتبر دير تاوانغ القديم الذي يبلغ عمره 430 عاما في منطقة أروناتشال براديش، من أقدم وأقدس الأديرة البوذية في العالم بعد المقعد التقليدي للدالاي لاما في قصر بوتالا في لاسا في إقليم التبت، وتعلن الصين احتجاجها الديني في كل مرة يزور مسؤول هندي أو حتى أجنبي هذه المنطقة.
وتزعم بكين بصورة رسمية أن قواتها قد حررت التبت في عام 1950، وتعتبر الراهب البالغ من العمر 80 عاما والحائز على جائزة نوبل للسلام، من الانفصاليين. والدالاي لاما الذي هرب من التبت في عام 1959 حينما كان يبلغ من العمر 23 عاما، بعد الانتفاضة الفاشلة ضد الحكم الصيني، كان قد حصل على الملاذ الآمن في الهند، ولقد ساعدت الهند الدالاي لاما على إقامة مقره الديني في دارامسالا في ولاية هيماشال براديش في الهيمالايا الهندية، ومن هناك، يواصل الدالاي لاما إذكاء روح النضال في التبت والمحافظة على التقاليد اللغوية والثقافية والدينية التي تميزهم. ولقد تحول مقعد الدالاي لاما في دارامسالا إلى منارة لجذب سكان التبت الذين يفرون من الاضطهاد الديني والعرقي الصيني المزعوم. وخلال العقود الستة الماضية، اجتذبت الهند ما يزيد على 200 ألف لاجئ من سكان التبت إلى أراضيها.
وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية جينغ شوانغ، في مؤتمر صحافي، إنّه "شارك الدالاي لاما ومنذ فترة طويلة في أنشطة انفصالية ضد الصين. ويدرك الجانب الهندي على نحو جيد أهمية وخطورة قضية الدالاي لاما وحساسية الحدود الصينية الهندية حيال هذه المسألة. وفي هذه الحال، إذا ما دعا الجانب الهندي الدالاي لاما إلى المناطق التي هي محل نزاع على الأراضي بين الصين والهند، فمن شأن ذلك أن يؤثر بصورة شديدة على السلام والاستقرار، ويلحق الأضرار البالغة بالعلاقات الصينية الهندية".
وأصدرت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية، الموالية للحزب الشيوعي الصيني الحاكم، تحذيرا مماثلا بنبرة أشد كما هي العادة، مشيرة إلى أنّه "لفترة طويلة، يعتبر بعض الهنود الدالاي لاما من أصولهم الاستراتيجية، ومع ذلك، فإنهم يبالغون في تقدير القيمة السياسية للدالاي لاما وجماعته، في حين يسيئون تقدير العزم والتصميم الصيني في الحفاظ على مصالح البلاد الأساسية".
وأفاد وزير الداخلية الهندي كيرين ريجيجو، وهو من أبناء منطقة أروناتشال براديش، والمبعوث الخاص لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لشؤون التبت، أنه سوف يقابل الدالاي لاما الذي يقوم بزيارة دير تاوانغ البوذي القديم، ومن غير أي لهجة عدائية أشار ريجيجو ، إلى أنّه "لا نخضع لهيمنة أي شخص، كما أننا لا نُخضع أي جار من جيراننا لسيطرتنا، ولكنها المصالح الهندية التي تحتل المقام الأول من اهتمامنا، إنه سوف يذهب إلى هناك كزعيم ديني، وليس هناك من سبب لمنعه. وإضافة إلى ذلك، فإن الهند دولة ديمقراطية علمانية، ولن تحول بينه وبين السفر إلى أي مكان يرغب في زيارته من البلاد"
ويقول المحللون في نيودلهي، إن الضوء الأخضر الممنوح لزيارة الدالاي لاما، وخطة الوزير الاتحادي بالحضور أثناء زيارته للدير القديم، يشيران إلى الموقف الأكثر صلابة وحزما المتخذ من قبل حكومة مودي، والذي أصبحت علاقات حكومته مع الجانب الصيني تشهد توترات ملحوظة منذ فترة.
وبيّن المحلل لدى مؤسسة "أوبزرفر" البحثية ومقرها في نيودلهي، مانوج جوشي، أنّه "تهدف الزيارة في الأساس إلى اتخاذ موقف صارم حيال الصين. فلقد كان موقفهم يتسم بالجرأة الشديدة إزاء قضية الدالاي لاما. وربما تعتقد الحكومة الهندية أنه يمكنها تأمين قدر من النفوذ من وراء هذا الأمر"
وتراجعت حكومات هندية كثيرة، في الماضي، عن فكرة عقد الاجتماعات العلنية مع قادة التبت في الهند، على الرغم من انعقاد بعض من هذه الاجتماعات معهم، ولكن على نحو خاص غير معلن. ومع ذلك، بعد انتخاب ناريندرا مودي رئيسا لوزراء الهند، اتخذت الهند موقفا أكثر حزما، ثم أعلنت عن تفاعلها العام مع قادة التبت المنفيين، وهو التغيير الواضح الذي انتهجته الحكومة الحالية بعد تردد من الحكومات السابقة، خشية إثارة غضب بكين.
وفي الآونة الأخيرة، استقبل الرئيس الهندي براناب موخرجي الدالاي لاما في مقر إقامته الرسمي مع الحائزين الآخرين على جائزة نوبل، وكان هذا أول لقاء رسمي يجمع الدالاي لاما مع رئيس الهند منذ 60 عاما، وحذرت الصين، الهند بشكل مماثل في ديسمبر/كانون الأول من عام 2016، عندما سمحت الهند للرئيس الـ17 لطائفة كارما كاجيو البوذية، ويدعى أورغين ترينلي دورجي ويحمل لقب كارمابا، بزيارة دير تاوانغ القديم في منطقة أروناتشال براديش.
وكارمابا الذي يأتي في المرتبة الدينية بعد الدالاي لاما، يعتبر أهم زعيم روحي ديني في البوذية التبتية، وكان قد فر إلى الهند في عام 1999 عندما كان يبلغ من العمر 19 عاما، هربا من القيود التي تفرضها الحكومة الصينية على دراساته الدينية في التبت. وجذبت زيارة كارمابا إلى دير تاوانغ القديم الاهتمام الدبلوماسي، حيث كان يرافقه في تلك الزيارة أيضا وزير الداخلية الهندي كيرين ريجيجو. ووجود الوزير الاتحادي الهندي خلال زيارة كارمابا للدير اعتبر إشارة إلى الدعم الذي تقدمه نيودلهي إليه، وكانت تلك الزيارة هي الأولى من نوعها لزعيم تلك الطائفة منذ نحو 9 قرون كاملة، كما غرد وزير الداخلية الهندي عبر موقع "تويتر" إبان زيارة كارمابا للدير المقدس.
وتربط بين العملاقين الآسيويين، الهند والصين، حدود مشتركة يبلغ طولها نحو 3000 كيلومتر، وهي الحدود التي اندلع بسببها صراع مسلح بين البلدين في عام 1962، الحرب التي انتصرت فيها بكين على نيودلهي. وهناك بُعد يتعلق بإقليم التبت في ذلك الصراع الحدودي، حيث إن أغلب خط الحدود المشترك يمر عبر المناطق ذات الأغلبية التبتية من السكان، وفي الماضي، تعمدت الصين مضايقة الهند عن طريق إصدار جوازات سفر معلقة للمواطنين الهنود من سكان منطقة أروناتشال براديش، أو حتى القول إن سكان هذه المنطقة لا يحتاجون إلى تأشيرات للسفر إلى الصين، ولا يتعلق الأمر بإقليم التبت فحسب، فلقد كانت الهند تلوح أيضا بورقة تايوان في مواجهة الصين، ففي الشهر الماضي،
وفي خطوة اعتبرت من النوادر، استضافت الهند وفدا برلمانيا من تايوان في نيودلهي. وأعربت بكين عن انزعاجها لتلك الزيارة، ووصفت تصرفات الهند بأنها "استفزازية"، ووجهت الاتهامات إلى نيودلهي باللعب بالنار عن طريق استضافة الوفد البرلماني التايواني على أراضيها، وتعتبر بكين تايوان من الأقاليم الصينية الانفصالية، والذي يمكن إعادة ضمه إلى البر الصيني الرئيسي بالقوة إذا لزم الأمر.
وتعرضت بكين إلى مزيد من السخرية عندما أيدت الهند موقف إندونيسيا الذي يطالب الصين بالالتزام بحكم المحكمة الدولية في لاهاي عام 2016، والذي يقضي برفض مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، سهلت الهند زيارة الزعيم الروحي الدالاي لاما إلى دولة منغوليا، ومما لا يثير الاستغراب، استنكرت بكين على منغوليا الاندفاع وراء هذه الخطوة الخاطئة من دعوة الدالاي لاما.
وفي ردة فعل انتقامية من جانب الصين، قامت بكين بإلغاء مفاوضات القروض بينها وبين منغوليا، وفرضت الرسوم الجمركية على الحدود معها، وألغت أيضا المحادثات الثنائية الرئيسية بين البلدين. ولقد شهدت الهند تهديدات مماثلة صادرة عن الصين، عندما قام ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي بزيارة رسمية إلى فيتنام.
أرسل تعليقك