خلال خروجه من مكتبه في مصرف لبنان، مختتماً 30 عاماً في موقعه، قال رياض سلامة: «مصرف لبنان صَمَدَ... وسيبقى صامداً».
حملت عبارته إشارة إلى ظروف وضغوط تعرّض لها المركزي خلال الفترة التي شغل فيها موقعه بصفته حاكما منذ عام 1993، ولمّح فيها إلى خصوم له شنوا عليه الحملات خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وقادته إلى المحاكم المحلية والأوروبية.
لم يخرج سلامة من موقعه كما دخله، فقد كان طوال 27 عاماً حاكماً فوق المساءلة، تراهن عليه الحكومات لتثبيت الاستقرار النقدي، وتلجأ إليه للاستدانة، بينما خرج من موقعه في ظل أزمة مالية وانهيار نقدي.
يقول عارفوه إنه في السنوات الـ27 الماضية «كان سلامة حاكماً لمصرف لبنان»، لكنه في السنوات الثلاث الأخيرة «كان مديراً للأزمة». برأيهم، استطاع أن يدير مالية كبيرة، ويتخذ إجراءات كبيرة، بينها إنشاء منصة لسعر الصرف في ظل أربعة أسعار لسعر صرف العملة المحلية... وكانت المخاوف ما إذا كانت المنصة ستقفل مع خروجه من الحاكمية، قبل أن يقول نائبه الأول إنها مستمرة في الوقت الحاضر. ودافع سلامة أيضاً عن السياسة النقدية التي اعتمدها، معتبراً أنه حاول «التخفيف من وطأة الأزمة».
وسلامة (73 عاماً) الذي شغل منصبه منذ عام 1993، يُعد أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم. وقال خلال مقابلة مع قناة محلية قبل أيام من انتهاء ولايته: «سأطوي صفحة من حياتي، وأعتقد أنه بين الثلاثين عاماً، 27 عاماً، ساهم خلالها البنك المركزي بسياساته النقدية بإرساء الاستقرار والنمو الاقتصادي».
بعد عام 2019، كرّر عبارة «الليرة بخير»، وهي العبارة التي تحولت إلى مادة تندّر بعد انهيار سعر العملة المحلية. كان على مدى سنوات عرّاب استقرار الليرة وانتعاش الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية، فحصد جوائز وتكريماً في العالم.
أما اليوم، فيختتم سلامة 30 عاماً، مكروهاً من فئات واسعة من اللبنانيين، ومستهدفا بتحقيقات قضائية أوروبية ومحلية حول ثروته وأدائه، ووسط انهيار اقتصادي غير مسبوق في البلاد.
ويُعدّ سلامة مهندس السياسات المالية في مرحلة تعافي الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية (1975 - 1990). لكن على وقع الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يشهده لبنان منذ 2019، يُحمِّل كثر أركان الطبقة الحاكمة وسلامة مسؤولية الفشل في إدارة أزمات البلاد المتلاحقة.
وتحمّل جهات سياسية ومحللون ومواطنون في لبنان سلامة مسؤولية انهيار العملة الوطنية، وينتقدون بشكل حاد السياسات النقدية التي اعتمدها طيلة السنوات الماضية، باعتبار أنها راكمت الديون وسرّعت الأزمة، إلا أنه دافع مراراً عن نفسه بتأكيده أن المصرف المركزي «موّل الدولة ولكنه لم يصرف الأموال».
ومنذ عامين، تشكّل ثروة سلامة محور تحقيقات في لبنان وأوروبا. ويصرّ الرجل الذي نال جوائز إقليمية ودولية وأوسمة شرف تقديراً لجهوده في منصبه وكان أول حاكم مصرف مركزي عربي يُقرَع له جرس افتتاح بورصة نيويورك، على أنه جمع ثروته من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة «ميريل لينش» المالية العالمية، ومن استثمارات في مجالات عدة بعيداً عن عمله على رأس حاكمية مصرف لبنان.
ومنذ توليه منصبه، حافظت الليرة على استقرارها بعدما ثبّت سلامة سعر صرفها على 1507 ليرات، وهو ما كان يبرّره بوجود «احتياطيات مهمة بالدولار الأميركي» لدى المصرف المركزي سرعان ما نضبت منذ بدء الأزمة التي برزت مع امتناع الحكومة اللبنانية عن دفع ديونها المستحقة. فبدأ الانهيار وشحّت السيولة.
ومنذ تعيينه، تم التجديد لسلامة أربع مرات. نال في عام 2006 جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم من مجلة «يوروموني»، ثم من مجلة «بانكر» عام 2009، وحاز أوسمة شرف فرنسية.
وبغطاء سياسي، انخرط سلامة منذ عام 2016 في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة، ورفع احتياطي المصرف المركزي، ورسملة المصارف، لكنّ خبراء اقتصاديين يعدونها من بين الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تعميق أزمة البلاد المالية.
ورغم الانتقادات التي طالت أداءه، وشبهات الاختلاس وغسل الأموال والإثراء غير المشروع التي تلاحقه في لبنان والخارج، بقي سلامة في منصبه، مستفيداً من حماية سياسية توفّرها له قوى رئيسية في البلاد. ويرى البعض أنه كان طامحا للوصول إلى رئاسة الجمهورية، ما يبرّر «عدم رفضه أي طلب من الطبقة السياسية»، وفق ما ذكرت وكالة «الصحافة الفرنسية».
ورغم التحقيقات التي بدأت تطاله منذ سنتين، أصرّ سلامة على البقاء في منصبه حتى اللحظة الأخيرة.
ويشتبه محقّقون أوروبيون في أنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وأنه أساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان.
وبناء على التحقيقات، أصدرت قاضية فرنسية في باريس والمدعية العامة في ميونيخ مذكرتي توقيف بحق سلامة جرى تعميمهما عبر الإنتربول. لكن سلامة يرفض التهم الموجهة إليه، متحدثا عن «بيانات مزورة» وخلفيات «سياسية».
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
أرسل تعليقك