لم يمض وقت طويل على تدشين مقبرة في جنوب تونس مخصصة لضحايا «قوارب الموت» وقد امتلأ نصفها... في هذا المكان المزروع بالزهور ترقد جثامين مهاجرين لقوا حتفهم خلال محاولة عبور البحر نحو أوروبا، ويقول مؤسسه إن الهدف منه حفظ كرامة الضحايا المجهولين.باب مدخل المقبرة قديم ومصمم بأسلوب هندسي تونسي يعود للقرن السابع عشر ويؤدي إلى مسالك صغيرة أرضها مغطاة ببلاط سيراميك مزخرف باليد، تعلوها قبّة بيضاء وقاعة صلاة لمختلف الأديان.
أسس مشروع «حديقة أفريقيا» الفنان الجزائري ورجل الدين رشيد قريشي الذي يقول لوكالة الصحافة الفرنسية إن المهاجرين المدفونين «الذين قضوا في البحر»، «واجهوا الصحراء والعصابات والإرهابيين»، وأحياناً التعذيب ثم الغرق، و«أردت أن أمنحهم جزءاً من الجنة» بعد جحيم محاولات العبور على أمل تحسين حياتهم.
في نهاية عام 2018، اشترى قريشي (74 عاماً) قطعة أرض في منطقة جرجيس القريبة من الحدود مع ليبيا، يحيط بها شجر الزيتون، ومن المرتقب أن تدشنه رسمياً الأربعاء المديرة العامة لليونيسكو أودري أزولاي التي تزور تونس.
يصطف قرابة مائتي مدفن مرقّمة ومطلية باللون الأبيض. ويمكن قراءة بعض المعلومات على شواهد القبور من قبيل «امرأة بفستان أسود، شاطئ الحناشي»، و«ورجل بثوب أسود، شاطئ فندق خمس نجوم».وتضفي رائحة زهر الياسمين وروائح شجيرات أخرى سكونا على المكان الذي يستقبل أحيانا جثثا متعفنة.
ويتم انتشال هذه الجثث من البحر بعد حوادث غرق، أو تصل أحياناً إلى الشواطئ في الجنوب التونسي بسبب التيارات البحرية. وغالباً ما تكون لأشخاص خاضوا المغامرة انطلاقاً من لبيبا أو من تونس.وتقول المهاجرة فيكي (23 عاماً) التي قدمت من النيجر مشياً على الأقدام، إنها حاولت مرّات عدة الوصول إلى السواحل الإيطالية انطلاقاً من ليبيا دون جدوى.
تتنقل فيكي بين مسالك المقبرة الحديقة وفي عينيها نظرات يائسة. وتقول: «أحلم بالذهاب إلى أوروبا والتخصص في الموضة، ولكنني عشت جحيماً. عندما أرى هذا، لا أعود متأكدة من أنني سأحاول ركوب البحر مرة ثانية».
ويتم تشييد مبنى في المقبرة ليضم لاحقاً قاعة تشريح تسهّل عملية التعرّف على الجثث.وتجرى التحاليل حالياً في مستشفى محافظة قابس الذي يبعد 140 كيلومترا، وتواجه السلطات المحلية صعوبات في نقل الجثث في ظروف صعبة.
على أحد القبور، عائلة ليبية تصلّي على قبر أحد أفرادها الذي تمّ التعرّف عليه مؤخراً بفضل أشخاص رافقوه خلال الرحلة المأسوية.
وصمم الفنان الذي فقد شقيقه غرقاً في البحر، المكان، «لمساعدة العائلات على بكاء موتاهم، ولكي يدركوا ولو بمجرد صور (ترسل إليهم) أن هناك مكانا للدفن بكرامة».
ويتابع: «هو أيضا مكان رمز مثل قبر الجندي المجهول، لأن الكلّ مسؤول عن هذه المأساة».
ويموّل رشيد المشروع بأكمله. وكان باع عددا من أعماله الفنية لجمع المال في البداية والانطلاق في مشروعه بعد أن ظهرت العديد من العراقيل في عملية دفن الجثث التي يتم انتشالها من البحر، في مدينة جرجيس التي يعيش فيها العديد من الصيادين.
ومنذ مطلع عام 2000، أخذت بلدية جرجيس على عاتقها دفن أكثر من ألف جثة لمهاجرين مجهولين جاؤوا من آسيا وأفريقيا والمناطق القريبة، في قطعة أرض معزولة عن المدينة.
ويكشف رئيس بلدية جرجيس مكي لعريض لوكالة الصحافة الفرنسية أن «العديد من الشباب في جرجيس هاجروا إلى أوروبا عبر البحر ومات بعضهم. حين نشاهد المهاجرين، نرى فيهم أبناءنا».وقام عمّال البلدية بمساعدة متطوعين بدفن أكثر من 600 مهاجر مجهولي الهوية في قطعة الأرض الرملية الواقعة قرب مكب للنفايات التي خصصتها البلدية لدفنهم.وسط القبور، بعض الزهور على قبر نيجيرية تدعى روز ماري تمّ التعرّف عليها من قبل أقاربها.
ويؤكد رئيس البلدية: «لو كانت لدينا الإمكانيات، لما تركنا المقبرة على هذه الشاكلة».
وامتلأت مقبرة البلدية مع وصول مائة جثمان في يوليو (تموز) 2019. وكان من الضروري حفر قبور في «حديقة أفريقيا» حتى قبل الانطلاق في بنائها.ومنذ ذلك التاريخ، بدأت تكتظ بالموتى كل أسبوع وخصوصا خلال فصل الصيف مع تزايد محاولات العبور من تونس وليبيا.
على أرض المقبرة أيضاً 200 قطعة من الآجر الأبيض تؤشر إلى مواقع جديدة لحفر القبور، لكن قريشي يخشى من أن تحجز كلّها بنهاية الصيف.ويقول: «نسعى إلى شراء قطعة الأرض المتاخمة لتوسيع المقبرة».
قد يهمك أيضا:
البرلمان التونسي يفتح تحقيقًا عن احتفال "الدستوري الحر" بذكرى اعتلاء بن علي الحكم
مجلس شورى النهضة يعقد اجتماعا ويحسم مصير الغنوشي
أرسل تعليقك