صاغ الموسيقار المصري الكبير عمر خيرت، الصوت السائد للموسيقى المصرية المعاصرة، وفق رؤاه الخاصة المُحملة بجمل مميزة تتسم بالعمق والثراء دامجاً الموسيقى الكلاسيكية بالأنغام الشرقية والترانيم الصوفية، لكن في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «المتمرد... سيرة حياة» ابتكر صوتاً آخر جديداً تماماً بالنسبة له، وهو صوت «الحكّاء» الذي يتمتع بثقافة واسعة خلال سرده لتجربته الشخصية العريضة.
ومن خلال صفحات الكتاب الصادر عن «دار نهضة مصر» والذي حرره الصحافي محمد الشماع، نتعرف على جذور عائلة الفنان، فنلتقي جده الكبير فنان الخط عبيد الله، الذي طلب منه الخديو سعيد كتابة اسمه على أزرار ضباط التشريفة، فإذا به يبدع في ذلك، فيكافئه الخديو بقطعة أرض كبيرة في منطقة قريبة من «السيدة زينب» يبني بيته عليها، ويكون بداية لعمار المكان، وفي السياق ذاته نتعرف على جده المحامي محمود خيرت عاشق الفنون، ومنه ننتقل إلى حكايات عمه الموسيقار أبو بكر خيرت، المهندس المعماري الشهير مؤسس «الكونسرفتوار» المصري.
وإذا كان القارئ العربي قد اعتاد قراءة السير الذاتية للأدباء والشعراء فلربما تكون من المرات النادرة التي يطالع فيها كتاب لسيرة موسيقار كلاسيكي، بل ربما تكون من المرات القليلة على مستوى العالم العربي التي يروي فيها مؤلف موسيقي قصة حياته.يقول الفنان عمر خيرت لـ«الشرق الأوسط»: «إذا كان الأمر غير مألوف في عالم الموسيقى، فإنه غريب للغاية بالنسبة لي، ولم يكن مرحباً به من جانبي، فمن يعرفونني يدركون جيداً أنه ليس من طبيعة شخصيتي التحدث عن نفسي، فكيف لي أن أكتب مذكراتي».
ويتابع: «لكن الأمر بدأ حين ازداد احتفاء أخي أبو بكر خيرت رحمه الله، الذي تم تسميته على اسم عمي، بالتوثيق للأسرة وتاريخها لما تضمه من شخصيات لعبت دوراً كبيراً في النواحي العلمية والثقافية بمصر، بل بعضهم كانوا يمثلون أعمدة للحركة التنموية بها، وقد توصل الجميع إلى أنني الأكثر مناسبة لإصدار هذا الكتاب باعتبار أنني شخصية معروفة، فوافقت بعد تردد».اختار الفنان كلمة «المتمرد» عنواناً لكتابه بوصفها «الأكثر دقة في وصف شخصيته»، ذلك أن حياته هي سلسلة من حالات التمرد، ويقول: «تمردت على النمطية بشكل عام، وعلى التقيد بأي شيء... أسعى دوماً إلى التحرك في عوالم مختلفة سعياً وراء الحرية والتوصل إلى الجديد».
لكن أيٌّ من حالات التمرد كانت الأكثر تأثيراً؟ يجيب: «اختياري الموسيقى وحدها من دون مهنة أو مجال عمل آخر، في حد ذاته تمرد، وكان ذلك عكس السائد في عائلتي، إذ كان جدي محمود خيرت محامياً ورساماً ومترجماً وروائياً وموسيقياً، أما عمي أبو بكر خيرت مطوّر الموسيقى المصرية فكان معمارياً شهيراً، وقام عمي عمر بدور في اكتشاف الكثير من الجراثيم وعلاجها، وكان أبي صاحب الأصابع الذهبية في العزف على البيانو، مهندساً في وزارة الأوقاف، ووسط ذلك كله جئت أنا لأقرر التفرغ للموسيقى، ورغم أن ذلك يُعد صادماً فإن أبي شجّعني.
التمرد الثاني في حياتي، كان تمردي على سطوة الأغنية في الفن. أما الثالث فيندهش القارئ منه، بسبب التأثير الطاغي لتمردي على الكلاسيكيات حين انضممت لفريق (Les Petits Chats) كعازف على الدرامز، كنت وقتها في السابعة عشرة من عمري، وانبهرت بما تمنحه الآلة من حرية مفرطة، وبحفلاتها حيث الشباب الذي يرقص ويغني بعيداً عن البدلة والأوبرا».
ويواصل: «لقد قادتني هذه الآلة إلى مناطق موسيقية ثرية مثل الجاز والبوب إلى جانب الشرقي والكلاسيك، وهو ما أسهم في تكوين المؤلف الموسيقي داخلي».كثيراً ما تثير كتب السير الذاتية شجوناً وتأملات كثيرة داخل كاتبها ربما أكثر ما تفعله داخل القراء، لأنها تجعله وجهاً لوجه أمام مجمل مشواره بكل إخفاقاته ونجاحاته، وبسؤال خيرت عن «التمرد» الذي ندم عليه ولو عاد به الزمن لامتنع عنه، يجيب قائلاً: «لا يوجد»، مبرراً ذلك بأن كل ما تمرد عليه حتى ذلك الذي لم يقدر تأثيره وقتها، قد أضاف إليه.
أما نجاحه الحقيقي فيقول عنه: «اجتذاب الجمهور غير المنتمي إلى ما يطلق عليها (النخبة) إلى الموسيقى الخالصة من دون كلمات، أعدّه وساماً على صدري، فأن أجعل هذا الجمهور في مجتمع لا تعترف ذائقته إلا بالطرب يحرص على حضور حفلات لهذه الموسيقى، أو يقتني شريط كاسيت أو سي دي للموسيقى التصويرية، فهذا هو إنجازي الكبير».
ورغم تطرق الكتاب إلى جوانب شخصية وأسرية كثيرة في حياته، فإنه لم يُشبع شغف القارئ بالاقتراب الكافي من الموسيقار المصري الشهير، أو التلصص على المناطق الخفية في مشواره أو مشاركته لحظاته الدافئة والمُلهمة، فقد جاءت سريعة، ومنها تناوله قصص الحب في حياته، ويعلق: «لم يكن ذلك مقصوداً، ربما يرتبط بشخصيتي التي لا تميل إلى الحكي، لكني أحترم للغاية المرأة وزوجاتي السابقات، ولم ولن أتحدث يوماً عن أي شيء يخصّهن، لأنه مبدأ، لكن بشكل عام لم تنجح امرأة في تفهم حجم حبي وعمق علاقتي بالموسيقى، فكأنما كانت تمثل لهن (ضُرّة)».ويتابع: «كنت أتمنى لو كانت هناك من ترافقني عمري، لكنه لم يحدث، والآن أنشغل بأبنائي، وأحفادي، وأشعر بالسعادة البالغة في قضاء وقتي معهم، واستكفيت بذلك، وقد تزوجت الموسيقى إلى الأبد».
كان منزل العائلة على مقربة من واحدة من أكثر المناطق حيوية في مصر وهو «حي السيدة زينب»، وبسؤاله لماذا لم ينل هو وطفولته قسطاً وافراً من الكتاب، يردّ: «لا أتذكر الكثير عنه، لأنني كنت في نحو السادسة من عمري حين غادرته، لكنها منطقة عظيمة ومباركة، وكانت لها طقوس خاصة بها ومتفردة، أنا كنت طفلاً ثم شاباً أفعل كل ما فعله من هو في مثل سني، ألعب الكرة في (حوش البيت) والشارع، وأتشاجر مع الرفاق في النادي، وأتسامر طويلاً مع الأصدقاء، ربما أبدو للبعض غير اجتماعي، لأنني لا أحب التحدث إلى الإعلام انطلاقاً من رفضي لتضخيم الأنا».
ويتابع: «لقد استمتعت بقدر استثنائي من الدفء الأسري ومن المبادئ، لذلك أشكر أسرتي لانتمائي إليها، وأعد القراء أنني إذا ما قدمت الجزء الثاني من (المتمرد) فإنني سأتناول هذا الدفء، مثل ذكرياتي مع جدتي ومنها أنها كانت تأخذني وإخوتي كل يوم جمعة إلى مسجد السيدة زينب ونقرأ الفاتحة هناك، أما أمي فكانت موطناً للحب والإيمان، وكانت تقلق بشدة على مستقبلي لاكتفائي بالبيانو، كنت أتمنى أن تعيش حتى ترى نجاحي».
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
أرسل تعليقك