الجزائر - العرب اليوم
يحمل الجزائريون أملا في اعتذار رسمي فرنسي عن استعمار دام 132 عاما، وهو أمل كبر مع رئيس فرنسي يظهر متحررا من عقد التاريخ، ومن ذلك اعترافه مؤخرا بنظام للتعذيب في الجزائر خلال "سنوات الثورة"، فهل يتشجع قصر الإليزي أكثر؟ 61 عاما وهي تنتظر اعترافا رسميا من أعلى هرم في الدولة بالجريمة، دون أن تكل من تكرار مطالبها، إلى أن طلب منها إيموانيل ماكرون، الرئيس الفرنسي، الصفح، مؤكدا أن زوجها عُذب وقُتل من لدن جنود فرنسيين بالجزائر لمجرّد أنه كان نشيطاً في طلب استقلال هذا البلد. هي حكاية المناضل الشيوعي الفرنسي موريس أودان الذي اختفى عام 1957 عن سن 25 عاما، واستمرت زوجته جوسيت أودان تتبع مسار القضية مع قصر الإليزي الذي تغيّر عدد رؤسائه منذ ذلك العام إلى اليوم عشر مرات.
وعكس جلّ سابقيه، لا يظهر أن إيمانويل ماكرون يجد غضاضة في الاعتراف بفصول من تاريخ استعماري أسود، كانت الجزائر من أكبر ضحاياه، عندما أصرّت باريس أن تجعل من هذا البلد "فرنسا الثانية"، محتلة إياه لـ132 عاما، قبل أن ترحل بتكلفة باهظة من الضحايا. اعترف ماكرون هذه المرة باستخدام بلاده نظاماً للتعذيب خلال حرب الجزائر التي تُعرف كذلك بالثورة الجزائرية (1954-1962)، كان من ضحاياه جزائريون وفرنسيون. ويُضاف هذا التصريح إلى ما قاله سابقاً عند ترّشحه للرئاسة، من كون استعمار الجزائر كان "جريمة ضد الإنسانية".
خيوط مقتل موريس أودان، الذي كان يدرّس الرياضيات بجامعة الجزائر، بدأت تنكشف عاماً واحداً بعد اختفائه، عندما أكد المؤرخ الفرنسي بيير فيدال أن المناضل الشيوعي توّفي تحت التعذيب، محملاً المسؤولية المباشرة لمسؤول المخابرات الفرنسية بالجزائر بول أوساريس. هذا الأخير بَقي ينفي الاتهامات حتى بدأ الاعتراف في العقد الأخير من حياته (توفي عام 2013) بارتكابه جرائم تعذيب في الجزائر تحت غطاء رسمي، ومن ذلك تعذيب ثم قتل أودان بالسكين.
تفاؤل يخفّف وجع الذاكرة
لم تُخفِ الحكومة الجزائرية ارتياحها لتصريحات ماكرون، مُعتبرة إياها خطوة إيجابية يجب تثمينها. وما يزيد من ارتياح الجزائر أن قرار ماكرون الأخير سبقته خطوات أخرى في المنحى ذاته، فالرئيس الفرنسي عبّر نهاية عام 2017 عن استعداد بلاده لإرجاع جماجم موجودة في متحف باريسي، تعود لمقاومين جزائريين قُتلوا بداية احتلال بلادهم، وهو تصريح يأتي عاماً واحداً بعد استقبال باريس للمرة الأولى في تاريخها وزيراً للمجاهدين (المقاومين) الجزائرين، كما أقرّ المجلس الدستوري الفرنسي بداية 2018 قانوناً بتوسيع دائرة تعويضات حرب الجزائر لتشمل جميع الضحايا بعدما كانت محصورة على الفرنسيين.
"ينتمي ماكرون لجيل جديد غير مثقل بماضِ سياسي متداخل مع حرب الجزائر" يقول بنيامين ستورا، رئيس متحف تاريخ الهجرة في باريس لـ"أوروب 1"، مشيراً إلى أن ماكرون غير معني بـ"استبداد الذاكرة"، وهو ما سيُتيح "الذهاب بعيداً في نوع من المصالحة مع التاريخ". تفاؤل تحمله المؤرخة رافاييل برانش، في حديث لموقع "لا كروا"، بالقول إن موقف ماكرون يؤكد "نهاية كذب الدولة"، لافتة إلى أن ماكرون استخدم كلمة "نظام" في إشارته للتعذيب، وهو يتجاوز بذلك قضية أودان إلى ما هو أكبر.
من أكبر المطالب الجزائرية حالياً، الإلحاح على فتح كامل للأرشيف الفرنسي المتعلّق باستعمار بلادهم. ماكرون لم يفوّت المناسبة ووعد في رسالة "الصفح" بفتح كل القضايا المتعلّقة بالاختفاء القسري إبّان استعمار الجزائر. يندرج هذا الوعد ضمن مسار حمل تفاؤلاً للجزائريين، فقد سبق لحكومة بلادهم أن أكدت تلقيها وعداً باستعداد الفرنسيين تقديم نسخة من أرشيف الفترة الاستعمارية، وهو أمر إن تم، سيفتح المجال لتبيان مصير الملايين من المفقودين الجزائريين، وسيثير اهتمام مستعمرات فرنسية سابقة بأن تضغط بدورها على قصر الإليزي.
غير أن الباحث في التاريخ الجزائري خميلي عكروت، يحمل رأيا آخر: "إذا كان هناك حسن نية حقيقية، فمرحبا بالاعتذار. لكن في تصوري أن ماكرون استخدم قضية أودان حتى يجعل منها شجرة تخفي كل الجرائم التي ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين " يقول الباحث لـDW عربية، متحدثاً عن أن الدولة الفرنسية رفضت الاعتراف بالمسؤولية في مقتل أودان طوال عقود لأنها كانت تخشى المتابعة، والآن "بعدما تقادمت القضية، جاء هذا الاعتذار الاستعراضي".
الخلاف أعمق والاعتذار لا يزال بعيدا!
رغم الاعتراف بمسؤولية الدولة في مقتل أودان، إلّا أن الطبقة السياسية الفرنسية، بما فيها الرئيس ماكرون، تحمل شبه إجماع على رفض الاعتذار للجزائر، لأسباب يعددها المراقبون بين ما هو سياسي وما هو مادي. كما أن ماكرون ليس أول رئيس ينتقد الاستعمار الفرنسي، فقد قام بذلك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند ولم يتبع ذلك أيّ اعتذار. وتحاول الإدارة الفرنسية طيّ الصفحة بدعوة الجزائريين إلى التطلع للأمام والكف عن التركيز على الماضي، في وقت يؤكد الجزائريون أنهم لن ينسوا جرح مليون ونصف مليون شهيد، سقطوا في مجازر جماعية ارتُكبت كما جرى عام 1945 وإبان الثورة الجزائرية.
ملفات الخلاف حول الاستعمار متعددة، ففرنسا لا تزال تعمل بقانون قديم صدر عام 2005 يعترف بـ"جهود" بالفرنسيين العائدين من المستعمرات ويمنح تعويضات لأنصار الاستعمار وأدواته، كما لم تفتح فرنسا بعد ملف تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية وما خلفته من ضحايا، زيادة على خلاف عميق حول ملف حقوق أبناء "الحركى" وهم جزائريون ساعدوا الاستعمار الفرنسي، وملف أصحاب الأقدام السوداء، وهم مستوطنون فرنسيون تركوا أملاكهم بالجزائر التي قامت لاحقا بتأميمها، كما لا يزال جزءا كبيرا من الرأي العام الجزائري يوجه انتقادات واسعة لحكام الإليزي، ويحمل دولتهم مسؤولية كبيرة عن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها الجزائر بعد الاستقلال، وهناك تنامٍ كبير داخل الجزائر لتيار يطالب بالاستغناء عن اللغة الفرنسية في التدريس. وقد حدت هذه الخلافات التاريخية من تطوير العلاقات الجزائرية-الفرنسية وجعلتها ترزح تحت عبءِ كبير.
ويتحدث خميلي عكروت عن أن ماكرون قد يكون راغباً في التصالح مع التاريخ، لكن الباحث ذاته يشكّ في دخول فرنسا مرحلة جديدة، إذ يقول: "ما يصدر إعلامياً لا يعبر دائماً عن الواقع، لا يمكن لماكرون لوحده أن يصنع قراراً، فهناك جزء كبير من الطبقة السياسية والمثقفة يرفض مواقفه الأخيرة"، لذلك يستبعد عكروت أن تتطور العلاقة الجزائرية-الفرنسية بناءً على موقف ماكرون الأخير، ويرهن المؤرخ ذلك بمرور زمن كبير وبتغيّر الحكومات وبوصول جيل جديد إلى الحكم ينظر إلى العلاقات من منظار المصالح بعيداً عن الماضي.
أرسل تعليقك