قبل الهدنة التي لا يعرف أحد كم ستدوم، كان السوريون ولا يزالون يعانون من صعوبات في التنقّل بين المدن. وحدهم سائقو الشاحنات وسيارات النقل استطاعوا اجتياز المناطق، ضمن رحلات لا تخلو من المشقة، لتأمين معيشتهم وإيصال المؤن إلى المناطق المأهولة.
التقى رصيف22 قرب مدينة رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة السورية (منطقة روج آفا كما يسميها الأكراد) عدداً من سائقي الشاحنات وسيارات النقل للاطلاع على كيفية التنقل بين المدن السورية التي تختلف الجهات المسيطرة عليها.
الرشوة لزوم العبور
يتفق معظم السائقين على أن المعاملة تختلف من منطقة لأخرى، والمرور غالباً يعتمد على البدل المادي المدفوع.
وقال سليمان، سائق شاحنة من حلب، إن أصعب الحواجز التي يمرّون بها هو حاجز الضمير على مدخل العاصمة دمشق، وذلك بسبب آلية التفتيش الدقيقة عليه. هذا عدا أن المرور به يتطلب أحياناً دفع مقابل مادي كرشوة يصل إلى مئة ألف ليرة سورية (ما يعادل 250 دولاراً أميركياً).
أما في مناطق المعارضة السورية، فالأمور تتشابه أحياناً مع حواجز النظام من حيث المقابل المادي، وأحياناً يتم المرور دون دفع أيّة رشوة، وذلك بحسب الجهة المسيطرة.
بينما في مناطق داعش، يفرض التنظيم المتطرّف الضرائب على البضاعة المحملة ويتحمل هذه النفقة التاجر، فيما يتم فرض زكاة سنوية على السائقين. وفي مناطق الأكراد يجري دفع تعرفة الجمارك المقدرة بمبلغ رمزي.
استبدال الطرق التقليدية بطرق وعرة
الطريق من مدينة رأس العين التي تخضع لسيطرة "وحدات حماية الشعب الكردية" إلى محافظة الرقة الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش تبلغ مسافتها 130 كيلومتراً، تتطلب لاجتيازها نحو ساعة ونصف الساعة في الحالات العادية.
لكن الطريق الآن يتطلّب من 4 إلى 5 ساعات، بحسب منير، سائق سيارة لنقل الركاب من الرقة وإليها. وقال: "نسلك طرقات وعرة لأن الطريق الدولي يشهد اشتباكات، ونقف على بضعة حواجز قبل الوصول إلى الرقة وبالعكس. وتُفتّش السيارة وتوجّه عدّة أسئلة للركاب، فكل راكب يحتاج إلى موافقة من الشرطة الإسلامية للخروج أو الدخول إلى الرقة، ولا نستطيع أن نقبل وجود أيّ راكب لا يحمل الموافقة، وإلا تعرضنا للمساءلة والتوقيف".
ويرى منير أن سبب تقييد داعش لحركة خروج المدنيين من الرقة "هو الحؤول دون إفراغ المحافظة من السكان، فغاية داعش هي إبقاء المدنيين ليكونوا دروعاً بشرية له في حال تعرض المحافظة لأي قصف أو هجوم بري".
وأضاف أنه في المناطق الكردية، ونتيجة الهجمات الانتحارية المتكررة، لا يتم إدخال أي شخص من خارج المحافظة إلا بكفالة، و"كل مَن لا يحمل بطاقة تثبت أنه من المنطقة يوقف قرب مخيم العراقيين، في مدرسة بقرية مبروكة غربي مدينة رأس العين، ريثما يأتي أحد أهالي المنطقة ويقوم بكفالته".
ماذا يفعل السائقون؟
يحمل السائقون في شاحناتهم مواد أولية وأساسية للأهالي، مثل المواد الغذائية أو المواد النفطية. وذكر زياد، عنصر أسايش (قوى الأمن الكردية) يقف على أحد الحواجز، أن الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعيشها المواطنون تجبر جميع الأطراف العسكرية المسيطرة، على السماح بمرور الشاحنات لتوفير البضائع التي يحتاجها الأهالي.
واعترف زياد أن سائقي الشاحنات وسيارات النقل يستخدمون أحياناً كثيرة كـ"مخبرين" لنقل المعلومات إلى جهة عسكرية معيّنة، وقال: "كثيراً ما تصل إلينا معلومات عن قدوم سيارة مفخخة من مناطق داعش عبر السائقين. أيضاً يتم نقل معلومات لداعش عن النقاط الأمنية التابعة لنا من قبل السائقين".
آلية العبور والتحديات
يفرض داعش ضرائب سنوية على السائقين العابرين من مناطقه بحسب خليل، وهو سائق من إدلب. وأضاف: "وجدنا طرقاً لتفادي الدفع، واهمها تبادل الإيصالات المدفوعة في ما بيننا، ونظهرها أثناء العبور كي لا يتم تغريمنا بزكاة سنوية".
خليل الذي تعيش عائلته على الحدود السورية-التركية كان يعمل قبل الأزمة السورية بين سوريا ولبنان، أما الآن فصار طريق رحلاته بين حلب والرقة والقامشلي، وهي مناطق تسيطر عليها جهات مختلفة، النظام والمعارضة وداعش والأكراد.
وأعاد عدم السفر إلى لبنان إلى الحساسية الطائفية بين السوريين، وقال: "أنا من إدلب التي تعتبر منطقة سنية، أخشى أن يتم التعامل معي بشكل طائفي، فغالبية الحواجز بيد ضباط علويين، كما تسيطر على بعض الحواجز باتجاه لبنان ميليشيات شيعية".
وفي المقابل، أكّد خليل أن السائقين الأكراد لا يستطيعون العبور إلى مناطق داعش لأن الحكم المسبق عليهم هو الإعدام.
وتحدث خليل عن الصعوبات التي يمر بها السائقون أثناء عملهم، معتبراً أن حياتهم معرضة للكثير من المخاطر. وقال: "نحن مجبرون على تقمّص شخصيات مختلفة لإرضاء الجهات المسيطرة، فلدى داعش أيّ خطأ بكلمة عن الدين ربما يودي إلى نهايتنا، عدا أن داعش يعتبرنا مرتدين بحكم تجوالنا في مناطق أخرى يعتبرونها مناطق كفار". وتابع: "جميع الأطراف تكره السائقين، لكنها مجبرة على القبول بهم لمرور البضائع".
معاناة السائقين أو تيسير أمورهم، تتعلق بواقع الحواجز، قال حسن وهو سائق من حمص، وأضاف: "أحياناً نصل إلى مناطق فيتم إيقافنا لساعات، وفي مناطق أخرى لأيام وأسابيع. كل ذلك يتعلق بمزاج الجهة المسيطرة".
وذكر عنصر الأسايش زياد أن المواد التي تُحمّل من الجزيرة (روج آفا) إلى تل أبيض ومنها إلى كوباني، لا يتم فرض الجمارك عليها، بحكم أنها مناطق خاضعة للإدارة الذاتية الديمقراطية (الإدارة التي أعلنها الأكراد).
داعش يفعل عكس ما يقول
وذكر السائق خليل أن داعش يمنع كل شيء باسم الدين، لكن الممنوعات تقتصر على الأهالي، "فكثيراً ما يقوم عناصر داعش بمصادرة الدخان من السائقين ويعاقبونهم، بينما بعض عناصره يدخنون سراً". وروى أن "أحد القادة المهاجرين في صفوف داعش في ريف حلب، كان كل مساء يقوم بمداهمة أماكن السائقين وتفتيشهم ومصادرة علب الدخان منهم، وتبين لنا في ما بعد أنه يقوم بذلك لتدخينها".
وقال أبو محمد وهو سائق من الميادين بريف دير الزور، إن المناطق التي يتخللها الحذر هي مناطق سيطرة داعش. وقال: "حتى النظام أرحم من داعش في التعامل".
واعتبر أن المناطق الكردية هي الأفضل من حيث المعاملة، بحكم وجود تنظيم ومؤسسات مستقرة فيها، "فالعبور إليها يحتاج فقط إلى قطع وصل للجمارك".
أبو محمد لا يلتقي عائلته إلا مرة أو مرتين كل شهر. وأعاد أسباب تحمّله هذه المشقة إلى ضرورة تأمين المعيشة لها. ولا ينكر حجم المخاطر التي يتعرّض لها السائقون، "فأحد أقربائي وهو سائق تم توقيفه من قبل داعش لأنه يحمل سبعين لتراً من المازوت، قام التنظيم بمصادرة سيارته وتغريمه مبلغاً يقدر بـ150 ألف ليرة سورية (ما يعادل 450 دولاراً)، وأدى ذلك إلى وفاته بسكتة قلبية".
وبحسب السائقين، فإن عقوبة تدخين السيكارة الواحدة لدى داعش هي 30 دولاراً (يجب دفعها بالدولار الأمريكي)، وعقوبة نقل كروز من السجائر هي 12 غراماً من الذهب.
90 جلدة بسبب قارورتي كحول
وذكر سعيد، وهو سائق من حلب، أنه قبل أشهر، أثناء قدومه من مدينة الحسكة، كان قد جلب لأحد الأشخاص قارورتي ويسكي، ووضعهما في مكان سري داخل الشاحنة، لكن أثناء وقوفه في مدينة الرقة عند حاجز لداعش ضُبطت القارورتان. وقال: "تم تحويلي بسببهما إلى السجن ثلاثة أيام وجلدوني 90 جلدة، ومن ثم أحالوني إلى المحكمة، ولكن تم إطلاق سراحي، برغم أن تهمة المشروبات الروحية تصل أحياناً إلى الإعدام".
وروى سعيد أن داعش يعاقب ويغرّم من يحلق لحيته، إلا أنه يستثني السائقين من العقوبة بسبب مرورهم بمناطق النظام والمناطق الكردية، ولا يقبل هذان الطرفان اللحى الطويلة.
سيدي، معلم، شيخ، هفال
وقال سعيد إنه عند المرور في مناطق النظام السوري نُظهر لهم أنهم الأفضل من حيث الحفاظ على الأمن في البلاد، ونضطر لأن ننادي الضابط "سيدي" والعنصر "معلم". بينما في مناطق داعش نتظاهر بأننا متدينون ونؤدي الصلاة أمامهم، وننادي كل عنصر بـ"شيخ". وفي مناطق الأكراد ننادي العناصر بـ"هفال" وتعني (رفيق).
وتحدّث سعيد بألم عن اضطرارهم لمراعاة جميع الأطراف العسكرية كي يعبروا بسلام، وعلّق: "حقيقةً، يصل بنا الحال أحياناً، من كثرة العجز، إلى أن نقول لجميع الجهات العسكرية (وحدكم الجيدون) ونحن كشعب السيئون".
أرسل تعليقك