رغم الإخفاق الذي واجه مبادرته الدبلوماسية للجمع بين الرئيسين الأميركي والإيراني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، لم يتخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن عزمه لعب دور الوسيط بين واشنطن وطهران من أجل إعادة ربط خيوط الحوار وخفض التوتر بين البلدين وتلافي التصعيد في منطقة الخليج.
ومع الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها طهران في إطار «المرحلة الرابعة» من خطة تقليص التزاماتها بالاتفاق النووي والشجب الدولي الذي لاقته، عادت الدبلوماسية الفرنسية للتحرك بعد أسابيع من غياب الملف النووي الإيراني عن «الرادار» الفرنسي. وجاء ذلك عقب قرار طهران إعادة تشغيل موقع فردو لإنتاج اليورانيوم المخصب بدءاً من منتصف الليلة الماضية؛ الأمر الذي أثار ريبة باريس التي سعت للتعبير، بلسان الناطقة باسم وزارة الخارجية، عن «القلق البالغ» إزاء الخطوة الإيرانية.
وكما في المرات السابقة، حضت باريس السلطات الإيرانية على «الرجوع» عن انتهاكاتها للاتفاق والامتناع عن أي خطوة إضافية من هذا النوع. بيد أن الرئيس ماكرون رأى فيما قامت به طهران أكثر من ذلك. وفي مؤتمر صحافي، في ختام زيارته الرسمية للصين، اعتبر أن العودة إلى تشغيل فردو «أمر خطير» ومختلف عن خطواتها الانتهاكية السابقة؛ إذ إن إيران و«للمرة الأولى وبشكل واضح ومن دون تحديد سقف، تقرر الخروج من إطار (خطة العمل المشتركة الشاملة) (أي الاتفاق النووي الموقع في 2015) وهو تغيير كبير عميق» بالنسبة «للموقف الذي كانت تلتزم به حتى الآن». ووفق رؤية الرئيس الفرنسي، فإن الخطوة الإيرانية الأخيرة تختلف عن سابقاتها من حيث الأهمية والخطورة.
وسبق لمسؤولين فرنسيين أن خففوا من أهمية ما قامت به إيران في «المراحل الثلاث» من تقليص التزاماتها النووية، ومنها رفع سقف مخزونها من اليورانيوم وزيادة نسبة التخصيب وتشغيل طاردات مركزية أكثر سرعة في إنتاج اليورانيوم.
إزاء هذا التطور، فإن ماكرون، كما شرح ذلك في بكين، يريد التحرك، لكن ليس على المستوى الفرنسي وحده لأنه وضع في الحسبان أن وزن فرنسا وحدها لا يكفي للتأثير على مسار الأحداث. من هنا دعوته إلى «استخلاص النتائج بشكل جماعي»، مضيفاً أن «الأسابيع المقبلة ستخصص بالنسبة لنا لضغط متزايد من قبل الجميع من أجل عودة إيران إلى إطار الاتفاق». ومن أجل ذلك، فإن ماكرون، حسبما أفاد، سيعمد إلى إجراء مناقشات في «الأيام المقبلة» مع الأطراف كافة بمن فيهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب والسلطات الإيرانية.
حقيقة الأمر أن ماكرون عاد إلى تسويق بنود مبادرته التي لم تحصد نجاحاً في الأسابيع الماضية. فهو يرى أن دعوة طهران للعودة إلى الالتزام الكامل ببنود الاتفاق النووي لا يمكن أن يتحقق عن طريق الضغوط القصوى التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية، بل تفترض خطوات متوازية أميركيا وإيرانيا.
من هنا، إشارته أمس إلى الحاجة إلى «تخفيف بعض العقوبات» الاقتصادية والمالية والبترولية التي فرضتها الإدارة الأميركية على طهران. كذلك، فإن الرئيس الفرنسي يريد إعادة وصل خيوط الحوار بين واشنطن وطهران؛ إذ إن «العودة إلى الوضع الطبيعي لا يمكن أن تتم ما لم توافق الولايات المتحدة وإيران على إعادة فتح قنوات لإحلال الثقة وتوسيع الحوار والتقدم بمبادرات». وخلاصة الرئيس الفرنسي يختصرها التساؤل الذي طرحه: «ما هو السيناريو البديل؟ تصاعد مستمر لا يمكن أن تكون نتيجته سوى أزمة».
هل تتوافر اليوم الظروف الضرورية لأن تصيب مبادرة ماكرون الجديدة - القديمة نجاحاً لم تحققه المرة السابقة؟
تقول مصادر دبلوماسية أوروبية في باريس، إن ماكرون «كان على مسافة قصيرة للغاية من إنجاح مبادرته في نيويورك» التي هيأ ظروفها من خلال اجتماعه المغلق مع الرئيس الأميركي في بياريتز، على هامش قمة السبع الكبار نهاية شهر أغسطس (آب) وفي نيويورك عبر ثلاثة اجتماعات مع حسن روحاني في مقر إقامته. وفي الاجتماع الأخير، ووفق تسريبات من المحيط المباشر للرئيس الفرنسي، فإن ماكرون قدم إلى فندق روحاني مع مستشاره الدبلوماسي السفير إيمانويل بون ليكون حاضراً في الاتصال الهاتفي المحضر له بين ترمب وروحاني. إلا أن الأخير لم يخرج من غرفته، وتعيد باريس السبب إلى أنه «لم يتلق الضوء الأخضر من طهران» التي ربطت أي اجتماع برفع مسبق لبعض العقوبات الاقتصادية؛ الأمر الذي لم يوافق عليه ترمب في نهاية المطاف. من هنا، فإن الرأي السائد أن «الظروف» لم تتغير، بل إنها ازدادت سوءاً مع فرض الإدارة الأميركية عقوبات إضافية تركزت، في المرة الأخيرة، على المحيط الأقرب للمرشد الأعلى بمن فيهم ابنه. كذلك، فإن الأخير استهدف الرئيس الفرنسي مباشرة في خطاب له الأحد الماضي عندما اعتبر أن ماكرون «إما بالغ السذاجة أو متواطئ» مع الأميركيين في اعتقاده أن لقاءً مع الرئيس الأميركي يمكن أن يحل المشاكل المتراكمة كافة بين طهران وواشنطن.
المعضلة بالنسبة لباريس وللعواصم الأوروبية المعنية مباشرة بالملف النووي، أنها لم تعد قادرة على غض النظر والاكتفاء ببيانات متشابهة مع كل انتهاك إيراني إضافي، وبالتالي ستجد نفسها مضطرة إلى فعل شيء آخر غير دعوة إيران للعدول عن انتهاكاتها والعودة إلى الاتفاق. وما يميز ماكرون أنه يربط هذه العودة بـ«بادرة» أميركية على شاكلة تمكين طهران من تصدير كميات من نفطها والسماح لها بالعودة إلى الدورة المالية العالمية. ومن غير ذلك، ووفق الرؤية الفرنسية، فإن الدعوات تدور في فراغ
قد يهمك أيضًا
الرئيس العراقي يصف ضرب المنشآت النفطية في السعودية بأنه "تطوُّر خطير"
الحكومة البلغارية تحتج على تصريحات إيمانويل ماكرون واعتبرتها "مهينة"
أرسل تعليقك